لماذا نرفض “سوتشي”؟



في بعض النقاشات مع قلةٍ من المحسوبين على الثورة السورية، كان سؤال كبير يقتحم معهود موقفنا: ماذا لديكم من بدائل؟ ثم يتفرّع إلى عددٍ من الأسئلة عن الواقعية، وعن واجب التفكير العقلاني بالممكن، والممكن هو ما تقدّمه روسيا كطرف وحيد، بينما لا يُقدّم الآخرون شيئًا سوى كلمات غامضة، ووعود ضبابية! وعن قدراتنا على تحمل الضغوط، وما يلي الرفض.

هناك من يتكلم عن الفرص التي يجب استثمارها، ولو كان منسوب الجانب الإيجابي فيها ضئيلًا، وأن مؤتمر سوتشي يمكن أن يحرّك الواقع الساكن، وفشل مفاوضات جنيف، وقد يفتح الباب لشيء أوسع.

علّمتنا العقود أن نتعاطى بشيء من العقلانية مع المفروض علينا، وأن يكون الرفض مبنيًا على وقائع، والأهم من كل ذلك وجود بديل للشيء المرفوض، والقدرة على أن تكتسي الـ “لا” مضامينها، وإلا؛ أصبحت بعض خطاب مكرور، طالما درج السياسيون العرب على ترداده على مدار العقود، ثم الندم واللهاث للقبول به بعد فوات الفرصة، والأمثلة كثيرة، وأن المواقف المهمة تتجاوز الحالة الشعبوية إلى ما يرتبط بمصير الأوطان، وبعضها قد يكون مؤلمًا، وغير مقبول لدى الكثيرين، ويبدو وكأنه تنازل عن الثوابت، وخيانة للأمانة، ولتضحيات الشعب وأمانيه وحقوقه… إلخ.

كل هذا صحيح، خاصة عندما نتفحّص لوحة أوضاعنا، والمخاطر المحيقة ببلادنا، وحجم الضغوط، وطبيعة المشاريع، والتنافس على مناطق النفوذ، وعلى إجبار الثورة وقواها الوطنية على سلسلة من التنازلات تتناول الثوابت، وتخترق ما اعتبر الخطوط الحمراء للعمل الوطني.

لكن الحالة الروسية بكلّيتها، وتفاصيل تطور تعاطيها مع الملف السوري، وصولًا إلى طبعة الدعوة لمؤتمر (سوتشي)، تدعونا إلى الرفض المبني على الوقائع. لقد كانت روسيا الداعمَ الرئيس للنظام المجرم على صعيد الهيئة الأممية، واستخدمت تسع مرات حق النقض “الفيتو”؛ لمنع صدور قرارات تدين إجرامه، واستخدامه للسلاح الكيميائي، ولحرب البراميل والإبادة التي مارسها ضد الشعب والوطن وبناه التحتية، وحين لم تنجح إيران وميليشياتها الطائفية التي استقدمتها من شتى بقاع العالم في منع انهيار النظام، أو سحق الثورة؛ كان التدخل العسكري الروسي حبل النجاة.

الوجود الروسي في سورية هو احتلال موصوف بكل المعايير الدولية والوطنية، وقد مارس أقصى درجات العنف العسكري ضد قوى الثورة والمدنيين والبنى التحتية، والأرقام الموثقة تُدلّل على ذلك، وجرّب في بلادنا آخرَ منجزاته الحربية، بما فيها الأسلحة المحرّمة دوليًا، وحين نجح في إلحاق الهزيمة بالفصائل العسكرية في حلب؛ قرر “جرجرتها” إلى أستانا لتوظيف واستثمار ما حقق، وبهدف إيجاد، أو فرض مسار آخر غير جنيف، وخلق وقائع على الأرض، تديم بقاء النظام، وتطيح بقرارات الشرعية الدولية وبالعملية السياسية من أساسها.

روسيا غير مقتنعة ببيان جنيف1 وبنوده، بخاصة من جهة تشكيل هيئة الحكم الانتقالي بصلاحيات تنفيذية كاملة، والبدء بمرحلة انتقالية موصوفة المهمات، وتؤدي إلى إنهاء النظام، وإقامة البديل التعددي؛ ثم وضع دستور تصوغه هيئة مختصة من تلك الهيئة، ويعرض على الشعب في استفتاء عام، فإجراء انتخابات تشريعية ورئاسية وفقه.

رغم محاولاتها إقحام “منصّات”، صُنِّفت دومًا على أنها أقرب للنظام، خاصة منصة موسكو، التي ترفض إجماعَ المعارضة على إبعاد رأس النظام وكبار رموزه عن المرحلة الانتقالية، إلا أن المشروع الروسي بطبعته الأخيرة ينسف جميع قرارات الشرعية الدولية، ويحاول فرض مسار آخر، يبدأ بوضع دستور وقانون انتخابات، بينما تمّ القفز فوق هيئة الحكم الانتقالي ودورها، والمؤسسات التي ستنبثق عنها.

يسعى الاحتلال الروسي بقوة وسرعة لملء فراغ غياب بقية الأطراف الدولية، خاصة الولايات المتحدة، ثم الاستفراد بالشأن السوري ومحاولات فرض مشروعه الخاص الذي يرسّخ مصالحه لسنوات طويلة، ويُبقي على نظام الأسد لفترةٍ ما، بما في ذلك رأسه، تحت شعار إجراء انتخابات بمراقبة أممية، بينما تبقى الأجهزة الأمنية والدولة العميقة التي أقامها النظام سيدة الحركة والفعل!

بالعودة إلى الاسم الذي اقترحته روسيا لمؤتمر “حميميم”، فقد عكس موقفًا روسيًا خطيرًا حين أطلق عليه “مؤتمر الشعوب السورية”، بما يحمله من تفتيت، ومن توصيف مريب يحوّل الشعب السوري إلى شعوب، ويفتح الطريق لما بعد من انقسامات، يمكن أن تجد تموضعاتها على الأرض، وعلى الرغم مما قيل عن تغيير العنوان (بعد نقاشات مع بعض المدعوين) وتسميته بـ “مؤتمر الحوار السوري”، ونقل المكان، يبقى ذلك العنوان أحد الهواجس السورية الماثلة للعيان.

الأهم من هذا أن مشروع المؤتمر، وبقية الخطوات الروسية الأخرى هي التفاف على قرارات الشرعية الدولية، وإعدام صريح لبيان جنيف1، ولمسار المفاوضات، وما نصّ عليه من عملية انتقالية، طالما حددوا مراحلها بثمانية أشهر.

دون الخوض في هذا التحشيد، وطبيعة المدعوين وما يُمثّلون واقعيًا، وعمليات خلط الأوراق، وتقزيم قوى المعارضة الوطنية بدعوتها ضمن آلاف المدعوين، وثقل النظام وأتباعه، فإن الأصل هو هذا التجاوز، بل الإلغاء لكل ثوابت الثورة السورية، وموقفها من المجرم: رأس النظام، المسؤول الأول عن كل ما جرى لبلادنا، ويعني أيضًا تقويض حقوق السوريين، في إنهاء نظام الاستبداد والفئوية، والحفاظ على القائم، ولو ببعض البراقع والتلميعات والتغييرات الجزئية.

لهذه الأسباب؛ نرفض مؤتمر سوتشي، وضمنه المشروع الروسي في صلبه، ونتمسّك بالحل السياسي المنصوص عليه في قرارات الشرعية الدولية ذات الشأن.

الرفض اللفظي ليس كافيًا، وسيكون مُكلفًا، خاصة أن الإنذارات الروسية كانت واضحة، ووقحة لمن قرر الرفض، المهم أن يملك السوريون قدرةَ الرفض على الأرض، عبر مجموعة من الخطوات، وأساسها العودة إلى الشعب، وتشكيل جبهة عريضة للوطنيين السوريين، تكون قادرة على بعثرة المفروض، وقلب الطاولة على هذه المشاريع الملغومة.


عقاب يحيى


المصدر
جيرون