يوميات الواحات



لا يمكن أن تقرأ لصنع الله إبراهيم، وأنت بوضعية الاسترخاء، لأن كتابته استفزازية وتحريضية، إذ يتورط القارئ معه منذ السطور الأولى، ومع كل كتاب جديد له، نعرف سلفًا أنه سيكشف لنا أشياء مذهلة عن الحياة، وطريقته في تناول المواضيع فريدة، تميزه وحده، ولا ينجح أحد في تقليده.

لم يُكتب على الغلاف أن (يوميات الواحات) هي رواية ولا سيرة ذاتية، إنها يوميات، رواية أفكار وأحاسيس، نمت وتعمقت في (سجن الواحات)، حيث قضى الكاتب سنوات طويلة من شبابه. يبدأ صنع الله إبراهيم كتابه الجديد: “السجن هو جامعتي، ففيه عايشت القهر والموت، ورأيت بعض الوجوه النادرة للإنسان، وتعلمت الكثير عن عالمه الداخلي، وحيواته المتنوعة، ومارست التأمل، وقرأت في مجالات متباينة، وفيه قررت أن أكون كاتبًا”.

لا يمكن اعتبار (يوميات الواحات)، من أدب السجون بالمعنى التقليدي للكلمة، إذ إن الكاتب لا يحدثنا إلا لمامًا عن تفاصيل أيامه في السجن، على الرغم من بعض الصور المؤلمة التي تعلق بخيالنا، وتملؤنا خزيًا وألمًا، حين يصف التعذيب الذي تعرض له ورفاقه، وكيف كان الحارس المتجهم دومًا يفتح باب السجن، ليصب على السجناء جرادل ممتلئة بالبول والبراز.

يبدو صنع الله إبراهيم غير معنيّ بالعالم الخارجي، إذ إنه يركز كل طاقاته على عالمه الداخلي، يستنهض منه الكاتب والمفكر، وتجاربه كلها ذهنية وشعورية يستنبطها من روحه، ويغذيها بالقراءات التي حرص عليها طوال فترة سجنه، حيث نجح ورفاقه في التواطؤ مع الحراس ورشوتهم، ليؤمنوا لهم الكتب.

كان يكتب على الأوراق التي يوضع فيها الإسمنت، وعلى ورق السجائر ولا يزال يعتبر ما كتبه في (سجن الواحات) ثروته الحقيقية، ولحسن الحظ تمكن من تهريب هذه الأوراق إلى أخته التي احتفظت بها حتى خروجه من السجن.

هل يمكن أن يكون السجن حاضنة للإبداع! الجواب البدهي: حسب الشخص.

فإذا كان الإنسان مثقفًا مرهفًا وشجاعًا، مثل صنع الله إبراهيم؛ فسيكون قادرًا على أن يسخّر قهر السجن لخدمته. لقد تأمل الكاتب طويلًا بشاعة القهر، وما يؤدي إليه من هدر للكرامة الإنسانية، ولم يكن يملك من بلسمٍ لتخفيف قهر السجن سوى الحكايات والأحاديث. كان يترك الحكايات تحمله على أجنحتها، وكان يتسلى بالخيال، فيتخيل أنه يعيش حيوات عديدة مثيرة، أراد أن يعيشها جميعها.

يقول صنع الله إبراهيم: لم أكن قادرًا على تمثل تجاربي الشخصية، فكنت اعتمد على تجارب الآخرين، وعرض عليّ “إبراهيم المناسرّلي” أن اكتب له قصة حياته، مقابل ثلاث سجائر لكل حلقة، وبعد الحلقة الأولى، أدركت أني لن أتمكن من مواصلة الكتابة، على الرغم من الإغراء المادي، إذ لم تكن هناك لذة في الكتابة، لأني كنت أتعامل مع تجارب لم أعشها.

تلقيت درسي الأول في الكتابة: ألا أكتب عن شيء إلا إذا كنت أعرفه جيدًا، وكان من الطبيعي أن تتحول الطفولة إلى منجم غني لعملي الأول. علمني السجن أن أتعامل بجدية كبيرة مع نفسي، فأخضعت كل دقيقة في اليوم لهدف الكتابة، وللإصغاء للآخرين.

وفي مقطع مؤثر، يصف صنع الله أحاسيسه في السجن: “تخيل معنى أن ينام الإنسان بجوار إنسان آخر، ليالي طويلة، أن يتوقعا معًا الخطر، ويعيشا لحظات الرعب والفزع، أن يشعر الإنسان بأن حياته انتزعت منه، وأنها أصبحت ذكريات، أن يجد بجانبه إنسانًا آخر يفتح له قلبه، أن تخلو الحياة من البيوت والمقاهي والشوارع وأماكن العمل واللهو والأطفال والحدائق.. أن تخلو الحياة من جمال وجه المرأة! أن يشعر بأن عليه خلق نفسه من واقع، يخلو من كل هذه الأشياء، عليه أن يخلق حياة جديدة تعتمد على الصور التي اختزنها من ماضيه.

لا يمكن تجاهل ثقافة صنع الله إبراهيم التي تشف من كتابته والكتب الكثيرة التي قرأها وتفاعل معها وحللها، والأهم من كل ذلك معرفة موقعه تمامًا على الخريطة الأدبية المعقدة. وفي الوقت الذي تأثر الكثير من الكتّاب بالرواية الغربية، وحاولوا تمثلها وتقليدها، نجد صنع الله إبراهيم، يعلن خصوصيته وتفرده ورؤاه في كتابته.

ويقول عن نفسه، وهو من أشد المعجبين بفيرجينيا وولف: “أكتب بأسلوب أقرأ نعيه بقلم فيرجينيا وولف، لكن التجربة التي أقدمها كانت بحاجة إلى هذا الأسلوب، لقد اخترت الأسلوب الواقعي، في الوقت الذي كانت فيه “وولف” تهاجم هذا الأسلوب، وتدعو إلى الأسلوب النفسي، وكانت أوروبا مكتظة بالواقعية إلى حد الاختناق. أما أنا فكنت متلهفًا للأسلوب الواقعي، ولو كتبت بأسلوب آخر؛ لكنت مجرد مقلد”. لم ينقد صنع الله إبراهيم إلى إغواء أشكال الرواية الغربية، بل أصر على أسلوبه الذي تخلقه تجاربه. في (سجن الواحات) ترك عقله يقوم بالاختراق اختراق العالم والأفكار والغوص في الذات، وكان يكتب كل ما يراه ويسمعه ويفكر به، واثقًا بأنه ذات يوم سوف يستفيد من كتاباته.

وعن الغموض في الفن، يقول صنع الله إبراهيم: من حق الفنان أن يكون غامضًا، لكن الجريمة أن يتخذ الغموض شعارًا. وينصح الكتّاب الشبان: يجب أن تكون الكتب التي نؤلفها عن أناس نعرفهم ونحبهم ونكرههم، لا عن أناس نقرأ عنهم. ويصف حالته حين يكتب: أكتب بنوع من الحزن والحنين الدافق، لا أبحث عن مواقف أو قمم، إنما أحاول أن أترك نفسي تنساب. وهو يؤمن أن أبغض الرذائل هي رذيلة الجهل، الذي يجعل صاحبه يعتقد أنه يعرف كل شيء.

أروع ما استوقفني في (يوميات الواحات) تحليلُ صنع الله إبراهيم لبعض الكتّاب، وسأترك الكلام له: “ما أسخف الكتاب الذين إذا أرادوا أن يتناولوا موضوعًا معينًا ذا طابع سياسي أو اقتصادي أو اجتماعي؛ صنعوا له قصة حب كي يُبلع! وبهذه الطريقة يبدو الأمر مفتعلًا. وكدت أقع في هذا الفخ، حين أردتُ كتابة روايتي عن السد العالي… واعتقدتُ أنه يجب أن أخلق قصة حب تدور أحداثها في تلك الحقبة الزمنية، لكني تراجعت، وجعلت البطل المياه نفسها والصخور، والسد نفسه، والهواء.. هؤلاء هم أبطالي”.

ولا يخفى تأثر الكاتب بأبيه ويقول عنه: علمني أبي أن استخفّ بكل شيء، يكون مبرره الوحيد أنه تقليد صالح. عرفتُ منه أنه يجب أن أفكر في كل شيء بنفسي ولنفسي. وبرأيه فإن الفنان الكبير يستمد مادته من عملية الحياة، وليس من تأمل الفن الماضي.

تصعب الإحاطة بهذا العمل الإبداعي الفريد والخاص –يوميات الواحات– فكل صفحة من هذا الكتاب تبهرنا بفكرة جديدة أو رؤية مبتكرة.

وعلى الرغم من إعجابي الشديد بكل إنتاج صنع الله إبراهيم، إلا أن كتابه (يوميات الواحات) ترك في نفسي، إضافة إلى الانبهار بعظمة هذا العمل، مرارة وخزيًا، وأحسست أن العار يجللنا، ونحن ندرك أن هذا المبدع –والكثير من أمثاله- سُجنوا وأهينوا ودفعوا ثمنًا باهظًا لحريتهم وتميزهم.

ولا أجد عبارة أختم بها سوى ما قاله صنع الله إبراهيم نفسه عن العدالة: العدالة تأتي متأخرة جدًا. ومن المستحيل أن نتأمل في شيء في هذه الحياة، من دون حزن.


هيفاء بيطار


المصدر
جيرون