تعزية فلسطينية لقاسم سليماني.. أم تعرية؟



لم يعد غريبًا مشهدُ الفصائل الفلسطينية “المُمانعة”، إسلامية كانت أم يسارية، ومن بين تلك المشاهد التي تصل إلى حدّ الاشمئزاز والتقيؤ، لمن يراقب، مشهدُ وفودٍ تمثل تلك الفصائل تهرع إلى طهران، لتعزية قائد “فيلق القدس” الإيراني قاسم سليماني، لتعزيته بوفاة والده قبل أيام، وقد لا يجد البعض في الخبر شيئًا مثيرًا، كما ركزت بيانات تلك الفصائل على اتصالات هاتفية، جرت مع سليماني للتعزية وإرسال وفود “رفيعة” من حركة “حماس” والجبهة الشعبية والجهاد الإسلامي، بعضها يرأسها أمناء عامون لفصائل الممانعة، بمعنى تمثيل يعكس أهمية الجنرال سليماني، المتهم بارتكاب جرائم حرب في سورية والعراق، والأصح أن الجنرال يقود بنفسه عمليات إعدام ميداني وتطهير عرقي، في كل من سورية والعراق، لكن الخبر فعلًا مثير للانتباه؛ فكيف يتداعى قادة “فصائل” فلسطينية لمواساة مجرم! ويطرح سؤالًا، إذا ما تذكرنا مئات أو آلاف الشباب والرجال والنساء الفلسطينيين الذين تم إعدامهم في أقبية النظام السوري، أين كان قادة تلك الفصائل من مجالس عزاء؟ لم تُقَم للشهداء والمغيبين، ولم يُسأل حتى عن جثثهم، وأذكر هنا واقعة جرت عام 2011 يومَ اعتقلت قوات النظام نجلَ مؤسس حركة الجهاد الإسلامي “إبراهيم فتحي الشقاقي”، في ريف دمشق، لمشاركته في تظاهرات مناوئة للنظام بعد الخروج من المسجد، واعتقل مرة ثانية عام 2012، وتم التكتم على الخبر بداية، وارتبكت التصريحات، ووُبّخ الشاب بعد الإفراج عنه، ووُجّهت الإهانة إلى عائلته، فضلًا عن مقتل العديد من الشباب المحسوبين على فصائل “ممانعة” في أقبية الأسد؛ لم تجرؤ تلك الفصائل على السؤال عن مصير “أبنائها”. وفي أي نقاش من هذا النوع يتناول المسلك الجرمي للنظام وأتباعه؛ يكون جواب الممانعين إنكارًا وهروبًا إلى الأمام.

تبادل المصافحة مع سليماني، مع انحناءة رأس تعبيرًا عن الحزن، لا تنم عن تعزية بقدر ما تفصح عن تعرية مستمرة للبوصلة المشبوهة والملتوية مئات المرات. وفتحُ خط هاتفي معه، للدعاء لوالده بأن يكون مكانه “الفردوس”، لا يعني إلا سؤالًا عن تدفق التومان الإيراني لحوانيت، تنتظر آخر الشهر من مجرمٍ غارقٍ حتى أذنيه، في دماء السوريين والفلسطينيين والعراقيين.

قد يقول متحذلق: إن الأمر لا يعدو أن يكون مجاملات. ولا بد أن نسأل مجددًا، عما إذا كانت لا تصح هذه المجاملات المزعومة، لا أخلاقيًا ولا سياسيًا، على خلفية إراقة الدماء والجرائم المسؤول عنها الجنرال “المكلوم” في مصابه، مع أن عشرات الآلاف من المقهورين من الفلسطينيين مع ملايين السوريين، بالكاد يجدون من يواسيهم، على العكس تمامًا، تجري من البعض عملية توبيخ للضحايا وذويهم؛ إذا لجؤوا إلى السؤال عن مصير أبنائهم، عند أبواب “حوانيت الممانعة”.

هل تجرّأ -مثلًا- قيادي “مُمانع”، بوصلته “القدس”، على أن يتصل مع زوجة المهندس باسل الصفدي الذي أُعدم في زنزانة ممانعة، وهل يتجرأ أي من أصحاب البوصلة على أن يتوسط لدى الجنرال، لسؤال “زعيم” ممانعاتهم في دمشق، عن مصير أبناء شعبهم، وعلامَ يكون مصيرهم الموت، في فرع يحمل اسم البوصلة “فلسطين”.

لا تستوي حملة استغباء العقول، إلا بهذه الطريقة الفجة التي يظهر فيها الممانعون محنيي الرقاب، خاشعين أمام جزار وسفاح شعبهم وأشقائهم، ويديرون الظهر لتاريخهم وشعبهم الذي عمّد بالدم تضحيات جسيمة، وقد يكون من غير المنطقي للبعض أن نسأل مثل تلك الأسئلة التي تُعدّ في العقل “المتنور والمتعقل” مشاغبة، لا تصح معها المقارنات، أمام عبقرية وفلهوية “الممانعين”. عندما كانت السلطة الفلسطينية، زمن الراحل ياسر عرفات، تدين “مقتل الإسرائيليين والفلسطينيين”؛ كانت تثور ثائرتهم على عرفات، وينعتونه بكل الأوصاف.

بمنطق الممانعة، الزحفُ نحو سفاح السوريين، بذريعة “تخفيف” حزنه، جريمةٌ لا تُغتفر، وتساوي التذلل للمحتلين الذين تلطخ تاريخهم بدم السوريين والعراقيين والفلسطينيين، والسكوت عن جرائمه يعني القبول بالمهمّة والتدليس والنفاق والانتهازية، والتربيت على كتف مجرم، و”تقديس” مهماته الفاشية، يمكن تسميته بأي شيء في قاموس الانحطاط والتعرية، ولا يمكن تسميته “تعزية”.


جيرون


المصدر
جيرون