تجنب أم تهرب، أم عساه يكون تطورًا؟ بقلم ماري آن ديفليغ



المؤسسة الشريكة للهيئة الاستشارية الدولية لحقوق الفنانين

يسرني أيّما سرور أن أشارك ببعض الأفكار في سلسلة المقالات التي ترعاها وتصدرها مؤسسة (اتجاهات-ثقافة مستقلة). لا شك أنني سأكتب منطلقةً من خلفية أوروبية غربية، ولكنني عملت –أيضًا- مع زملاء من منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا باستمرار، منذ عام 1994، كنتُ أرمي إلى تناول بعض الموضوعات الواردة في المقال السابق الذي كتبته الزميلة المحترمة فاتن فرحات، ولكن، في النهاية، تبيّن أن ما لدي من الأسئلة أكثر مما لدي من الإجابات.

خضتُ أولى تجاربي مع المشكلات المرافقة للصراع على الأرض في الشرق الأوسط، والنزوح البشري القسري الناجم عنه، عام 1995. كان ذلك في نقاش خلال مهرجان قرطاج المسرحي في تونس، وكان المخرجون المسرحيون اللبنانيون الأكبر سنًا يؤنبون المخرجين والكتاب الشباب بقسوة: “لم تكونوا موجودين خلال تلك الفترة، لا يمكنكم التحدث عنها، ليس من شأنكم الكتابة عن الحرب، ماذا تعرفون عن الحرب؟ لا تعرفون شيئًا!” وهكذا…

صحيح أن عائلات عديدة أرسلت أطفالها بعيدًا لتجنيبهم تجربة الحرب الأهلية، ولكن هل يعني هذا أن ليس لديهم ما يقولونه حول قلقهم الدائم، وابتعادهم عن عائلاتهم؟ وعن رؤيتهم للوضع في أثناء المنفى، وبعد العودة إلى المكان الذي كان وطنهم، ولم يكن وطنهم في وقت واحد؟ والفنانون منهم، أليس لهم أن يصنعوا أعمالًا فنية تعكس هذا الواقع؟

عندما أفكر بالفنانين السوريين اليوم -سواء كانوا داخل سورية أم خارجها- آمل ألا يتكرر هذا الفصل بين الأجيال والأماكن، وأرجو أن يستمر حوارٌ كافٍ بين “من بقوا”، ومن لم يستطيعوا البقاء أو لم يبقوا، وأتمنى أن يعمّ فهم متبادل، بحيث لا يكون هذا شرخًا إضافيًا بين السوريين.

النزوح يسبب الضغط والقهر (وقد يكون مثيرًا لفترة قصيرة)، وهو نسبي ومرن، أن يغادر المرء قد يعني أنه هجر أو انسحب أو هرب أو استراح أو اجتنب. تقول المنسقة والمستشارة الثقافية ألما سالم: إن النزوح هو “العيش في واقع مزدوج. إنه ليس سفرًا، بل منفى.. فُصامًا يومي”.

كما يصف الكاتب خالد خليفة: قد يشعر بالنزوح وآلامه من بقوا داخل سورية، “في أوسلو عام 2013، جاءت صديقة لي لاجئة لحضور حلقة دراسية شاركتُ فيها، كان الأمر ثقيلًا عليها، فذرفَت الدموع طوال الحلقة، وكانت رؤيتها تبكي أمرًا ثقيلًا علي”. أن يبقى المرء في المكان قد يعني أنه يستمر أو يحتمل المشاق أو أنه تعرّض للهجر أو أنه يقضي الوقت.

وعلى الرغم من التغييرات الكبيرة التي أحدثتها وسائل التواصل الاجتماعي، من المعروف أن المغتربين (أو المهاجرين) معرضون لامتلاك صورة عن بلادهم، تتجمد زمنيًا عند لحظة مغادرتهم، ما يؤدي إلى أن هذه الصورة لا تعكس التغير الحتمي والمستمر على الأرض. “الاغتراب تجربة عالمية طويلة وعميقة، وتحدث تغيرات مهنية وشخصية كبيرة، حيث ينظر المرء إلى الأعراف والقيم القديمة في بلاده من منظور جديد. إنه أمر يشبه تحوّل دوروثي من الفيلم بالأسود والأبيض إلى الفيلم الملون”. التغيّر حسب السياق والمحيط جزء من السلوك البشري الطبيعي، فالناس يتأثرون بالمحيط الجديد ويؤثرون فيه حين يغتربون.

يواجه السوريون عددًا من التحديات الأخرى

هل يرتبط هؤلاء بالصراع؟ هل يُبجّلون؟ هل يتحولون إلى ناطقين رسميين باسم الصراع؟ أم يسمحون لأنفسهم (تحت وطأة شعورهم بالذنب أو الالتزام أو وخز الضمير، إضافة إلى نظرة الآخرين إليهم) بأن يكونوا “مجرد” فنانين يجربون أشكالًا وأفكارًا ومضامين، تثير اهتمامهم في وقت ما؟ هل يتغير هذا مع الزمن؟ هل يجب أن يتغير؟ على حرية التعبير الفني أن تتضمن حرية الاستكشاف والنقد والتحليل في الموضوعات غير المرتبطة بالصراع.

هل ينحصر عمل الفنانين النازحين بالمواسم والمعارض والمهرجانات التي تركز على المهاجرين أو اللاجئين؟ إذا كانت هذه الفعاليات مهمة؛ فإنها يمكن أيضًا أن تتحول إلى “غيتوهات” فنية موازية للمشهد الفني الأساسي العام، ولكنها لا تستطيع دخوله. هل يجب أن نسعى إلى جعل “عوامل الجذب” الترويجية هذه غيرَ ضرورية؟ أم هي ذات شأن فني بذاتها؟

هل يمكن للفنانين النازحين الاستمرار في الاتجاه الجمالي الذي كانوا يعتمدونه في بلادهم، أم هم مجبرون على مجاراة أمزجة وذائقة النقاد والمنسقين في الدول المُضيفة لهم، كي يتمكنوا من شغل مساحة في المشهد الفني؟ هل يمكن للجمهور بناء صلة مع عمل هؤلاء الفنانين وفهم تفصيلاته؟ ما الذي يمكن للفنانين السوريين، وغيرهم من العاملين في المجال الفني، فعله لتوسيع وتعميق فهم هذه التفصيلات، عوضًا من مواجهة ردات فعل سطحية؟

يؤدي وصول موجات متتالية من المهاجرين من أماكن متعددة من العالم -عادةً- إلى تغيّر في أولويات الجهات الممولة والجهات المنظمة للمعارض والعروض الفنية. ويتضح هذا عندما تمنح الجهات الممولة الأولوية لتقديم منح لأعمال الفنانين الذين وصلوا في “آخر موجة”. هل الفنانون السوريون (كما سمعت صدفةً في أحد المؤتمرات) يُميَّزون حاليًا عن غيرهم من الفنانين الذين وصلوا في موجات سابقة، من حيث التمويل وبرامج الدعم؟ إذا كان هذا صحيحًا (ولا أعلم مطلقًا إن كان ذلك صحيحًا أم لا)، فهل عليهم مسؤولية خاصة هنا؟ هل ثمة حاجة لحركة تضامن بين الفنانين النازحين كافة؟ هل هذه مسؤوليتهم هم؟

ولعل الأمر المساوي في الأهمية هو تأثير الفنانين السوريين الحالي أو المستقبلي على الاتجاهات العالمية في الفن، فكما أكدت فاتن فرحات “تمتلك سورية بعض أهم مؤسسات التدريب الفني في العالم العربي، ويتمتع معظم الفنانين والناشطين الثقافيين السوريين، بمهارات فنية وتقنية استثنائية”. هل أثر النزوع نحو “العمل الفني المؤثر اجتماعيًا وسياسيًا” (الذي يمكن، بصراحة، أن يكون دعائيًا أو ساذجًا) على الفنانين السوريين؟ أو هل تؤثر أعمالهم على الفنانين والمنسقين المقبلين، في أنحاء مختلفة من العالم؟ من الذي يتتبع هذا الأثر؟

بعض الإجراءات الممكن اتخاذها (ونعلم أن بعضها قد بدأ اتخاذه بالفعل)

يجب أن يجري حوار عميق ومستمر، بين الفنانين السوريين والقطاعات الفنية في سورية، وفي الدول المضيفة، هذا أمر حتمي، ويجب أن يتضمن هذا الحوار مناقشات ومعارض وتعاونًا رقميًا أو افتراضيًا، وحلقات نقاش عبر الإنترنت وجلسات تدريب. يجب أن يكون التواصل أولوية لا أمرًا ثانويًا.

في الدول المضيفة، لا بد من إجراء برامج اندماج للفنانين المهاجرين أو النازحين (إضافة إلى المنسقين والمبرمجين الفنيين المحليين)، بحيث يتمكنون من دخول المشهد الفني العام، ولا يقتصر عرض أعمالهم على “أسابيع المهاجرين” حاليًا، يتخذ هذا الدعم شكل النصح والإرشاد، كما في نيويورك ومدن أميركية أخرى، على سبيل المثال، من تنظيم مؤسسة برنامج النصح والإرشاد للفنانين المهاجرين من مؤسسة نيويورك للفنون.

ويجب أن يتوفر هذا النوع من التدريب والتعليم للمنسقين والمبرمجين والمنتجين، كي يتمكنوا من استكشاف موضوعات أعمال، وكي لا ينحصر التركيز في موضوعات الهجرة والصراع. ولعل الأهم أن يؤدي العاملون السوريون في المجال الفني دور المنسق، وعلى المزيد من المؤسسات والمعاهد الثقافية والجهات الممولة الداعمة للفنانين السوريين أن تفهم أن المسألة السورية تتطور باستمرار، وتتضمن وجوهًا معقدة متعددة.

المزيد من الأسئلة؟

ختامًا، أودّ تسليط الضوء على المزيد من الأسئلة التي ظهرت في السنوات القليلة الماضية، على الرغم من أن الفردية قد أحدثت آثارًا إيجابية متعددة، نعلم جميعًا الآن أن ذلك هو وجه واحد فقط من العملة، وأن الوجه الآخر يمكن أن ينتج تعصبات قومية وقبلية ونوعًا من الأنانية التي تولد الخشية من خسارة “المكتسبات” الاجتماعية، ويؤدي إلى عدم التسامح وتقبل الآخر، وإلى عنف متزايد، فما هو الهدف الذي يجب أن تسعى إليه مجتمعاتنا مع اقتراب المستقبل؟ ويجب أن نسأل، بطبيعة الحال، ما هو دور الفن في هذا؟ فيما يلي ثلاث صور:

1- قبل بضع سنوات، بعد انهيار جدار برلين، وحين كانت “الحرية والديمقراطية” ما تزال في طور الوصول إلى أوروبا الوسطى والشرقية، سمعت العاملين في المسرح يتذكرون حضور الجمهور الكثيف إلى المسرح، في زمن كانت النصوص المعروضة على المسرح تتضمن دائمًا رسائل خفية مضادة للحكومة، وعندما تغيرت مهمة المجتمع، واحتاجت التنمية الإيجابية إلى الدعم؛ واجه الفنانون والجمهور صعوبة في الاقتناع بالفن الذي يوجه رسائل إيجابية، فن إيجابي؟ هل يمكن أن نكون قوة إيجابية من دون صنع فن دعائي، وهل يمكن مواصلة النظر بعين النقد والتحليل؟ هل يستطيع الفنانون السوريون فعل ذلك حين يأتي الوقت؟

2- باعتباري مقيمةً في (البندقية)، أحضر بينالي الثقافة وبينالي العمارة بشكل عام، يتسم المعماريون بأنهم -بحكم مهنتهم- متفائلون ويعملون على تطوير أفكار طوباوية (إن لم تكن حلولًا)، فأي معمار يرغب في تصميم بناء فاشل؟ وفي هذه اللحظة، يميل معظم الفنانين إلى التشاؤم، ويعكسون العالم كما هو، ما ينتج صورًا ورؤى كئيبة، ولكن، كما يسأل ناقد في مراجعته لمعرض الفنانة الإفريقية الأمريكية كارا ووكر: “لِمَ نوقظ العنف، ثم نرقد وقد وضعناه عمدًا تحت وسائدنا؟ من يتحمس للاحتفاء [بهذا العمل] ومن سيحزن بسببه؟”.

3- الصورة الثالثة تأتي من بحث أجريه لصالح “كاونتربوينت للفنون، المملكة المتحدة”، حول موضوع (الفن واللاجئون والمهاجرون والاندماج)، في المقابلات التي أجريتها مع العاملين في المجال الفني، بمن فيهم فنانون نازحون، لحظتُ رغبة عامة في إنشاء ما يمكن تسميته “حركات تكافل جديدة”؛ فالشباب بشكل خاص، ولكن غير حصري، يرغبون في التعاون والمشاركة والإيجابية والسعي (مجددًا!) نحو إحداث التغيير، بل تغيير العالم.

ألا يصح أن نرجو، نظرًا إلى الجودة والذكاء اللذين يتمتع بهما السوريون العاملون في المجال الفني، أن بإمكان الفنانين السوريين تجاوز العقبات التي عطلت الفنانين النازحين الآخرين، لصناعة نماذج جديدة وتجريب أصيل؟

هل يمكن لمبادرات مثل اتجاهات-ثقافة مستقلة (ولكن ليس وحدها) دعم بناء حركات تكافل جديدة، ونشر فهم متبادل أعمق، ورؤى بناءة يمكنها أن تؤدي في النهاية إلى أن يكون للفنانين السوريين أثر كبير في الفنون العالمية؟


جيرون


المصدر
جيرون