الأزمة السورية.. تحولات في المواقف الدولية



في 26 أكتوبر الماضي، قال وزير الخارجية الأميركي ريكس تيلرسون للصحافيين في جنيف إن «الولايات المتحدة تريد سوريا كاملة وموحدة لا دور ل(الرئيس) بشار الأسد في حكومتها». وأضاف قائلا: «إن حكم عائلة الأسد سينتهي، والمشكلة الوحيدة تتعلق بكيف ينبغي تحقيق ذلك».
تصريح تيلرسون بدا محيراً ومربكاً – فهل شدّدت واشنطن موقفها من سوريا؟ وقد كان غريباً بشكل خاص كونه صدر عن شخص سبق لرئيسه، الرئيس الأميركي دونالد ترامب، أن أشار إلى سوريا باعتبارها «رمالاً متحركة» ينبغي على الولايات المتحدة الابتعاد عنها.
غير أن ما جعل التصريح أكثر غرابة هو أن الأسد لا يستعجل الرحيل، وواشنطن تعرف ذلك. ذلك أن خصومه في حالة تفكك. فخلال العام الماضي، تمكّنت قواته من استعادة معاقل المتمردين في حلب وشرق سوريا. وكل ما تبقى من جهود ذات مصداقية لإطاحته هي جهودٌ يهيمن عليها الإرهابيون الذين لا يسعهم الأمل في تلقي الدعم الدولي الذي يحتاجونه من أجل النجاح. أما المتمردون غير المتطرفين، فقد اختُزل دورهم في حراسة الحدود الأردنية والتركية. هذا في حين يريد الأكراد المدعومون من الولايات المتحدة في شمال سوريا عقد صفقة مع دمشق.
خصوم نظام الأسد ينسبون سلسلة انتصاراته إلى الدعم الروسي أو الإيراني، والواقع أن الأسد سيكون أسوء حالاً من دون حلفائه، وربما كان سيكون ميتاً الآن. ولكن قصة كيف انتعش النظام، وعاد للفوز بالحرب لا تتعلق بمن دعم الأسد فحسب، ولكنها تتعلق أيضاً بائتلاف «أصدقاء سوريا» الذي دعم خصومه – إلى أن لم يعد يدعمهم.
توقعات خاطئة:
كان شكل سوريا يبدو مختلفاً جداً قبل خمس سنوات. آنذاك كان الأسد يواجه اضطرابات وانشقاقات واسعة من جيشه، وكان الكثير من المراقبين يعتقدون أن رحيله بات وشيكاً. وللتعجيل بهذا الرحيل، شكّلت الولايات المتحدة وفرنسا ائتلافاً يعرف باسم «أصدقاء سوريا». عُقد أول مؤتمر لـ«أصدقاء سوريا» في تونس في فبراير 2012، وقد عرف حضوراً كبيراً، حيث كانت الدبلوماسية الأميركية الحاذقة قد جمعت كل اللاعبين الرئيسين المناوئين للأسد – الولايات المتحدة، فرنسا، السعودية، تركيا، بريطانيا، قطر – وطعّمت قائمةَ الضيوف ببلدان أقل انتقاداً للنظام السوري، مثل ألبانيا والنمسا والهند، ليبلغ بذلك مجموع لبلدان المشاركة عدداً مثيراً للإبهار هو 60 دولة تدعو إلى انتقال سياسي في سوريا.
ثم عقد «أصدقاء سوريا» ثلاثة مؤتمرات أخرى في 2012: في اسطنبول، وباريس، وأخيرا مراكش. وقد اغتنم الائتلاف كل واحد من هذه المؤتمرات للتعهد بمزيد من المساعدات للمعارضة، وعرْض المعارضين المفضلين أمام الكاميرات على أمل منحهم شرعية دولية.
وفي ديسمبر 2012 في مراكش، دعا عدد قياسي من المندوبين الدوليين بلغ 114 مندوباً إلى إسقاط الأسد، غير أن مؤتمر «أصدقاء سوريا» لم يحقق هدفه، ذلك أن معظم المندوبين كانوا هناك فقط لأنه كان يمثّل بديلاً أقل تكلفة للتحرك، والقيام بعمل ما. وكان همهم تسجيل نقاط لدى واشنطن على أمل الاستفادة من مساعداتها.
الحرب الأهلية:
في 2012 و2013، انزلقت سوريا من الاضطرابات العنيفة إلى واحدة من أكثر الحروب الأهلية وحشية في زمننا، حيث أطلق رجال الأسد أولى الرصاصات وصعّدوا النزاع من خلال أعمال وحشية مروعة، ولكن «أصدقاء سوريا» تقاسموا أيضاً نصيباً كبيراً من المسؤولية عما حدث، فقد فتحت تركيا أراضيها أمام المتمردين المسلحين في صيف 2011، ولم تبذل جهداً حقيقياً لمنع دخول المتطرفين الأجانب إلا بعد مرور سنوات، عندما خرج الوضع في شمال سوريا عن السيطرة. كما قيل إن قطر ضخت ما قد يصل إلى 3 مليارات دولار في دعم الثورة خلال عاميها الأولين. هذا في حين دخلت دول أخرى في اللعبة بالطبع لإخراج القطريين، ما زاد من قوة المتمردين السوريين أكثر.
كما تم تقديم الدعم لحركة تمرد تعاني انقساماً مزمناً، وتضم مئات المجموعات الصغيرة التي تقاتل من أجل السيطرة على قرى ونقاط تفتيش. وحينما كانت توجد زعامة كفؤة داخل المعارضة، فإنها كانت تميل إلى أن تكون لإسلاميين طائفيين، ومن ذلك فرع لـ«القاعدة» في سوريا يعرف باسم «جبهة النصرة». وحيثما كان المتمردون يفوزون، كانت مؤسسات الدولة تنهار والفوضى تعم، متبوعةً بانفجار في تجنيد الإرهابيين.
كانت الولايات المتحدة قد يسّرت شحنات الأسلحة القطرية والتركية في 2012، ولكن في 2013 رفع الرئيس باراك أوباما الرهان عندما أمر وكالة الاستخبارات المركزية، الـ«سي آي إيه»، بدعم وتسليح المتمردين الذين يتم التحقق من خلفياتهم مباشرة. ولم تكن تلك فقط طريقة تعاقب من خلالها واشنطن الأسد، بعد أن وجدت الاستخبارات الأميركية أنه مسؤول عن سلسلة من الهجمات الكيماوية، ولكن محاولة أيضاً لإبعاد حلفاء الولايات المتحدة الإقليميين عن المتطرفين المعادين للغرب.
مساعدات في الأيدي الخطأ:
«ديريك تشوليت»، الذي كان مساعداً لوزير الدفاع الأميركي لشؤون الأمن الدولي في عهد أوباما، قال لي في 2016: «لقد كان لدينا شركاء يلقون كل أنواع الموارد في النزاع»، مضيفاً «وكانت الكثير من تلك الموارد ينتهي بها المطاف في الأيدي الخطأ. كان ذلك يحدث من منطلق«عدو عدوي»، ولم يكن مهماً بالنسبة لبعض شركائنا إن كان دعمهم ينتهي به المطاف في يد (جبهة النصرة) أو مجموعات أخرى». واستطرد قائلاً: «وهكذا، أمضينا كثيراً من الوقت في محاولة إقناعهم بدعم المعارضة المعتدلة وتعبئة المجتمع الدولي لدعم المجموعات المعتدلة».
وبالفعل، بذلت واشنطن الكثير من الوقت – والمال. وفي ظرف قصير، تحولت الحملة المناوئة للأسد إلى «واحد من أكثر برامج العمل السري تكلفة» في تاريخ الـ«سي آي إيه»، وبحلول 2015، ناهزت نفقاتها 1 مليار دولار.
أصدقاء أقل:
غير أنه بحلول 2013، وبينما كانت الولايات المتحدة توسِّع تدخلها في الحرب السورية، كان الكثيرون من «أصدقاء سوريا» يرغبون في الانسحاب.
ومع أن باريس ولندن استمرتا في حث واشنطن على الانخراط بشكل أكبر في سوريا، ورغم أن تركيا وبلدان الخليج ظلت متشددة بشأن إسقاط الأسد، إلا أن معظم الحكومات في أوروبا وأماكن أخرى لم تكن ترغب في أن تتسخ أيديها نيابة عن معارضة لم تكن تحبها أو تثق فيها أو تصدّقها. وبالمقابل، كانت ترغب في الدعوة إلى استقالة الأسد من الهامش، ولكنها لم تكن ترغب في أن يرتبط اسمها بحركة تمرد تضم متطرفين، وباتت تهدد حكمه.
وهكذا بدأ «أصدقاء سوريا» في التفكك والانهيار. وشكّل مؤتمر مراكش 2012 نهاية عهد المؤتمرات الكبيرة. فمنذ ذلك الوقت، اضطرت الحملة المناوئة للأسد للاكتفاء بمجموعة أصغر من الداعمين الأساسيين، مثل فرنسا والأردن وقطر والسعودية وتركيا وبريطانيا والولايات المتحدة، ولكن حتى داعمي المتمردين هؤلاء لم يكونوا مستعدين للذهاب في دعمهم للمعارضة السورية المنقسمة على نفسها إلى حد مساعدتها على تنحية النظام، ما كان يعني أن دعمهم لحركة التمرد لم ينجح إلا في إطالة أمد الحرب.
روسيا وإنقاذ الأسد:
وفي سبتمبر 2015، تدخلت روسيا لدعم الأسد، قاضيةً بذلك على الإمكانية الضئيلة أصلاً لتدخل جوي أميركي، ومخلةً بالتوازن العسكري لمصلحة النظام. وبحلول ربيع 2016، سمحت حملةُ القصف الروسية المكثفة للأسد وحلفائه بمحاصرة شرق حلب، الذي كان معقلاً رئيساً للمعارضة. وبنهاية 2016، كان النظام قد استعاد السيطرة على المدينة بشكل كامل.
ثم تلقت المعارضة ضربتين إضافيتين في 2016 حسمت مصيرها: الأولى تمثلت في تحويل تركيا اهتمامها إلى المجموعات الكردية على حدودها، وشروعها في تقليص دعمها لتغيير النظام قصد نسج علاقات أفضل مع موسكو. أما الثانية، فحدثت في نوفمبر 2016، وتجسدت في انتخاب دونالد ترامب، الذي يُعد أحد المنتقدين للتدخل الأميركي في سوريا، رئيساً للولايات المتحدة. وفي يوليو، أنهى الرئيس الأميركي الجديد برنامج الـ«سي. آي. إيه»، الذي وصفه بأنه «ضخم وخطير ومسرف». ومنذ ذلك الوقت، وهو يقول إن الولايات المتحدة «لا علاقة لها بسوريا عدا قتل داعش».
مواقف متغيرة:
وفي الأثناء، حدث تراجع من جانب بقية أصدقاء سوريا السابقين أيضاً. ففي يونيو 2017، قال الرئيس الفرنسي المنتخب حديثاً «حتى الآن، لم يُِرني أحد خلفاً شرعياً» للأسد. أما بريطانيا، فتبدو أكثر مقاومة لتغيير موقفها من الزعيم السوري علانية، ولكنها لا تفعل أي شيء ملموس للتخلص منه أو خلعه، كما أنها ترفض شن حرب عليه بمفردها.
وفي غضون ذلك، واصلت تركيا العمل مع حليفي الأسد روسيا وإيران من خلال عملية السلام في أستانا. وعلى الرغم من أن الجنود الأتراك يتدخلون في شمال سوريا، إلا أنهم يتجنبون مواقع النظام، ويمنعون فصائل المعارضة التي يدعمونها من محاربة القوات الحكومية السورية، ذلك أن مهمة أنقرة الآن هي بناء نفوذ على طول الحدود، وتلطيف تداعيات ارتداد المتطرفين، وإلغاء مكاسب الأكراد، مع الأسد أو من دونه.
وإلى الجنوب، تدفع الأردن فصائلَ المتمردين الذين تدعمهم إلى الإبقاء على وقف لإطلاق النار مع النظام، وتسعى بالتوازي مع ذلك إلى رعاية استئناف التجارة الحدودية بين الأردن وسوريا، وذلك من أجل إخراج إيران من جنوب سوريا. أما السعوديون والقطريون، فإنهم ما زالوا يكرهون الأسد، ولكنهم لا يستطيعون فعل شيء من دون مساعدة الأردن وتركيا والولايات المتحدة.
انتقال سياسي أم رحيل النظام؟:
أحدثُ اجتماع على شاكلة اجتماعات «أصدقاء سوريا» عُقد في نيويورك في سبتمبر الماضي، وعرف مشاركة 17 وزير خارجية، معظمهم من دول أوروبية وعربية، ولكن إعلانهم النهائي خلال من أي إشارة إلى الأسد. وعلى الرغم من أنهم وافقوا على منع كل مساعدات إعادة الإعمار عن سوريا في غياب «عملية سياسية ذات مصداقية تفضي إلى انتقال سياسي حقيقي»، إلا أن حتى ذاك القرار جاء مع ثغرة بحجم الأسد.
وقد سعى مساعد وزير الخارجية الأميركي لشؤون الشرق الأدنى بالنيابة «ديفيد ساترفيلد» جاهداً لتوضيح أن اللغة بخصوص الانتقال السياسي ليست مطالبة بإسقاط الأسد، حيث قال للصحفيين: «إن نتيجة عملية (الانتقال السياسي) تلك يمكن أن تطول»، مضيفاً، «ولكن العملية نفسها هي السبيل لفتح الباب، وليس النتيجة الفعلية للعملية».
باختصار، على الرغم من أن «أصدقاء سوريا» القلائل الأخيرين قد يشددون على أنهم لم يغيِّروا موقفهم، إلا أن مطالبتهم السابقة برحيل الأسد أُفرغت من كل معنى، وهذا هو السياق الذي ينبغي أن تُفهم فيه التصريحات التي أدلى بها تيلرسون في جنيف، فتيلرسون لم يكن يقول، إن الولايات المتحدة مصمّمة على إنهاء حكم الأسد، وإنما قال، إنه يعتقد أن النظام سينتهي قريباً على أي حال، نافياً الحاجة لتدخل أميركي.
وقد ألح تيلرسون بشكل خاص على أن رحيل الأسد سيحدث «على الأرجح» من خلال «تطبيق قرار مجلس الأمن الدولي رقم 2254»، الذي يدعو إلى انتخابات حرة مراقَبة دولياً.
الفيتو الروسي:
ولكن ذلك أمر لا فرصة له في النجاح، وتيلرسون يعلم ذلك. ذلك أنه لن تكون ثمة أي انتخابات حرة في سوريا. والقرار رقم 2254 لا يتضمن أي آلية للتطبيق، في حال اختار الأسد رفض الاستجابة له. كما أن روسيا تستطيع استخدام حق «الفيتو» ضد أي محاولة لاتخاذ تدابير ضد الأسد في الأمم المتحدة. بعبارة أخرى، إن العودة إلى عملية الأمم المتحدة هو تنصل وتملص من المسؤولية: فوزير الخارجية الأميركي يصف العملية الانتقالية التي تقودها الأمم المتحدة بأنها الطريق لتحقيق السياسة الأميركية المتمثلة في تنحية الأسد، على الرغم من أنه يدرك أن تغيير النظام لا يمكن أن ينجح إلا بطريقة عكسية. وإذا لم تكن الولايات المتحدة وحلفاؤها مستعدين لمساعدة المتمردين السوريين على القضاء على النظام، فإن الأسد سيبقى.
والواقع أنه ليس على الزعيم السوري القلق.
فعملياً، انتهت الحملة الدولية لخلعه، وعلى الرغم من أن حكم الأسد سينتهي يوماً ما من دون شك، إلا أن الأرجح الآن أن ذلك سيحصل نتيجة تقدمه في السن، وليس نتيجة قرار أممي، مهما كانت شدة وصرامة لغته.

(*) كاتب سويدي


الاتحاد


المصدر
جيرون