الناقود دون جوان



والناقُود.. يا أعزائي: مفرَد، على وزن: “فاعول” ومِثله: البابوج، الجاروخ، الطابور “الخامس”، الكابوس؛ الخازوق، الساطور؛ الجاسوس؛ الناسوخ والماسوخ؛ ومِثلهَا: يأجوجَ ومأجوج؛ ويقال عن الرجل الذي يخاف فلا يخالِط الناس: “الحَاذور”؛ أمّا نار جهنّم فهي “السَاعور”؛ وتسمَّى السلسلة حولَ عنِق الكلب: “الساجور”؛ وثمَّة: المَاخور، والناسور، والبَاسور.. إلخ.

ويقال عن البعوض في العاميّة: “الناموس”، أي: البَقّ، وهي حشراتٌ لا فائدة لها سوى الملاريا! ولا تعيش من جهدِهَا الخاصّ كالنمل والنحل؛ وإنما على شفط دماءِ الآخرين؛ وآخِر ابتكاراتِ أغاني الدِيَكَة هي: “الحاصود”.

أمّا الدَاسوس، فهو الذي يدسّ لك السمَّ في الدسم؛ ويدسّ عليك التقرير تلوَ التقرير، لأجهزة الأمن؛ وينسج كالعنكبوت دسَائِسَه حتى تلتفّ حَبَائِله حول عنقِه، فتخنقه. ولا يجمَع “الناقود” إلا جَمعَ تكسيرٍ: “نواقيد” على وزن فَوَاعِيل: ومِثلهَا المَوَاخِير، الخوازيق، البواسير؛ المتاريس، المَجَارير، الجَوَامِيس، ولا تضاريسَ لها.. ولا بساتينَ ولا حَوَاكِير.

الناقود المسرحيّ يا أعزائي لا يباع؛ ولكن.. تشرَى ذِمَّته بأبخَسِ النقود. ‏وكنت قد رأيت ناقودًا يشبِه السحلِيَةَ: “أبو بريص”، يتلوَّن بحسب مقتضَى العروض والمهرجانات المسرحية التي يدعى إليها، وقد صار له -للأسف- مكانٌ فيها، في لجان انتقاءٍ العروض، وفي لجان إجازة النصوص المسرحية للنشر، ثم بدأ يأخذ مكانَ أساتذته في عضويّة لجان التحكيم! ‏

فإذا قرأتم له سَـقْط مَتَاعِهِ النقدَوِيّ؛ فستجدون مقالتَه عن العرض المسرحي الواحد، تصلح لكلِّ العروض: عربية وإفرنجيّة ومترجمةً ومدَبلَجَة، وآراؤه فيها تشبِه لغةَ العَسِس والبصّاصِين.. كلما رأى في مسرحيةٍ نشازًا عن المسيرة التاريخية المظفَّرَة! ‏

وإذا سمعتموه يتكلّم جاثيًا خلفَ المنابر المسرحية؛ أدركتم مقولة ابن خلدون عن انهيار الحضارات، حين تعزّ فيها الخيل الأصيلة؛ فيشدّون للوَغَى على ظهور البِغَال والنِغَال؛ أو حين تعزّ فيها العقول.. فيأخذ فيها الناقود مكانَ الناقد الحصيف، وتتراجع فيها التقاليد المسرحية، ويختلط فيها الحَابِل بالنَابِل؛ والناقود يهَلوِس بالجملَة وبالمفرق.. ما يقال إنّه نقدٌ مسرحيّ، بل.. إنه يكتب التقارير ضدّ أساتذته؛ ورأيت ذات يومٍ أحدَها بخطِّ يده؛ يردّ فيه الجميلَ لأستاذه نبيل حفّار.. بالدَسِّ عليه لدى أولِي الأمر؛ حتى يزِيحَه مِن مكانه رئيسًا لتحرير المجلة التي عَيَّنه الحَفَّار محرِّرًا فيها، ليغتصبَ مكانَه!

فلا تستغربوا.. إذا تحوَّل ذاكَ الناقود من دَاسوسٍ إلى شبّيحٍ للنظام الذي ما يزال يقتل شعبه. وإذا كنَّا نفتخر بأبي خليل القباني وسعد الله ونّوس وفواز الساجر؛ فهم لا يملكون سوى هؤلاء النَوَاقِيد.. الكَوَاوِيد؛ وتلك الأخيرة -أيضًا- جمع تكسير لمفردة: القوَّاد؛ وتنقلب القاف فيها عند بعض بطون العرب كافًا.. بلا غنَّةٍ.

وكان زميلٌ لنا يجري تحقيقًا صحفيًا عن حالِ جرائدنا ومجلاتنا، وسألني عنها، فقلت فيها رأيي واحدةً.. واحدة، فلمّا جاءني سؤاله عن مجلة “الحياة المسرحية” التي كانت تصدر كلَّ ثالوثٍ من الشهور؛ أو.. لا تصدر، فلا ينتبه أحَدٌ ولا يأبَه؛ فقلت.. لِتَوِّي: ‏من سعد الله ونوس ونبيل حفار وفرحان بلبل، إلى الناقود دون جوان جان؛ تلك هي المَهزَلة!


نجم الدين سمان


المصدر
جيرون