ما وراء الأطلسي



“روسيا تحتل سورية”، “روسيا تقتل السوريين”، “روسيا تتحكم بالواقع السوري كما يحلو لها”.. مقولاتٌ، درج السوريون على تكرارها كمواقف وكمسلّمات، وعلى الرغم من صحّة المقولتين الأوليتين، إلا أنه يمكن الجزم بأن المقولة الأخيرة تُجانب الحقيقة والواقع والمنطق؛ فروسيا دولة كبيرة، لكنها ليست “عظمى”، وليست قادرة على التحكم وحدها بأي ملف دولي، مهما صغر، ولا يمكن أن تُغرّد خارج السرب الأميركي، وهذه الفرضيات ليست رأيًا شخصيًا، بل استنتاجات من أرقام ومعطيات رسمية موثّقة ومنشورة، يمكن للجميع أن يصل إليها، أو في أدنى حد، إلى بعضها.

تقول الأرقام الإحصائية الدولية الرسمية: إن الإنفاق العسكري للولايات المتحدة يُعادل الإنفاق العسكري لكلٍّ من روسيا والصين وفرنسا وبريطانيا وألمانيا والهند واليابان وكوريا وإيطاليا مجتمعة، ومعها كل الإنفاق العسكري للدول العربية، وفوقها، “على البيعة”، الإنفاق العسكري لبعض الدول الإفريقية.

وفقًا للأرقام الأميركية الرسمية، فإنّ ميزانية الصين العسكرية بأكملها لا تُعادل سوى خُمْس ما أنفقته الولايات المتحدة، على حربَيها في كل من العراق وأفغانستان.

إلى ذلك، تحتفظ الولايات المتحدة بنحو 750 قاعدة عسكرية خارج أميركا، في مختلف أنحاء العالم، ولها في العالم العربي وحده نحو 77 ألف عسكري، فيما يبلغ عدد القواعد العسكرية الروسية حول العالم تسع قواعد فقط، وبعدد كلّي لا يتجاوز عشرة آلاف جندي، والأهم أنه تطغى على القواعد الروسية الصبغة الدفاعية، بينما يطغى على الأميركية الطابع الهجومي الواضح.

على صعيد التكنولوجيا العسكرية، تتقدم الولايات المتحدة على روسيا بألف ألف ميل، وهناك من يقول إنها تتقدّم عليها بـ “سنة ضوئية”، سواء من حيث النوعية أم الدقة وغزارة الإنتاج وسرعة التطوير، والقدرة على جذب الكفاءات والأدمغة من مختلف أنحاء العالم، وتوظيفها.

وفق المعلومات المتوفرة، فإن الولايات المتحدة تضم أكبر عدد من مراكز الدراسات السياسية والعسكرية (الثينك تانكس) المرتبطة بصانعي القرار، وعادة تتجنب الإعلان عن نفسها بهذه الصفة؛ لتجنّب تبعات السمعة السيئة لهذا المصطلح، وترسم تلك المراكز السياسةَ الأميركية لمئة عام مقبلة، وتضع عددًا لا نهائيًا من الاحتمالات والحلول والخطط المتشابكة والمترابطة، قصيرة ومتوسطة وبعيدة المدى، وتصرف عليها أموالًا طائلة سنويًا، لا يمكن حصر ملياراتها، وتمولها كبريات شركات البترول والصناعة وتجارة السلاح، فضلًا عن أثرياء المجتمعات السياسية الأميركية.

إلى ذلك، وكما هو معروف، فإن الولايات المتحدة أكثر دولة في العالم تبتز شركاءها، وتستغلهم، وتعتصرهم حتى آخر رمق، ولا تتوانى أن تفرض عليهم ضرائب و”خوّات” و”إتاوات”، بوقاحة ودونما خجل، و”تُشلّحهم” أموالهم بشكل قسري، من دون دبلوماسية أو منطق.

كذلك، فإن الولايات المتحدة، هي راعي البقر الإنكشاري، المستعمر الوقح، الوحيدة التي ما زالت تمارس استعمارًا قديمًا وحديثًا، من دون اكتراث لعُرفٍ إنساني أو قانون دولي أو ضوابط أممية، ولا ترى سوى مصالحها، وتعمى عيناها ويسيل لعابها؛ عندما تجد فرصة ربح هنا ومكسبًا هناك.

هل يحتاج الأمر أيضًا إلى أن نُسهب أكثر من ذلك، وأن نشير إلى صرف الولايات المتحدة على حرب النجوم، وعلى التجسس والعملاء، وأساليب الترهيب والترغيب، والعصا والجزرة، وشراء الذمم وتشكيل اللوبيات، وحروبها الباردة والساخنة، وعلاقاتها الدولية المُهيمنة الصلفة، وحجم تحكمها بالاتصالات والإنترنت ومراقبتها لهما، ومستوى تحكمها بمسارات الأموال حول العالم، وتحكمها بأسعار نفط وغاز البشرية، وامتلاكها كلّ الشركات العابرة للقارات..

وفق كل هذا؛ من الطبيعي الاستنتاج أن روسيا لا تستطيع التغريد خارج السرب الأميركي بسهولة، وبخاصة في ملف بالغ التعقيد والأهمية، كالملف السوري خصوصًا، والشرق أوسطي عمومًا، وجلّ ما تقوم به إما موافَق عليه أميركيًا، أو مسموح به، أو “مُطنَّشٌ” عنه، لضآلته، أما الأساس، فيُدرس ويُخطط ويُصنع هناك، ما وراء الأطلسي، وعلى العيون أن تنظر إلى هناك، وتبحث عن أطياف الحل هناك، وتحاول أن تُقنع هناك، وفي الغالب، سينتظر عبثًا من يحوم حول روسيا، أملًا في إيجاد حل للقضية السورية.


باسل العودات


المصدر
جيرون