“الممانعة” والبديهيات الباقية



قبل تفاقم أزمة اليمن، وبلوغها جحيم الحرب الأهلية، وانطلاق الأصوات “الحريصة” على الدماء اليمنية والسورية، مرارًا وتكرارًا، من مخاطر استمرار الأزمة السياسية والإنسانية، وبعد بلوغ النظام السوري درجة عالية من الوحشية، تختلط الأوراق والمواقف السياسية بهذا الصدد، لترسم خطوطًا حمراء، أهابت المختلفين في المواقف أن لا يخرقوا هذه الخطوط، من الرياض إلى بيروت ثم أبو ظبي، وطهران وأنقرة، مرورًا بالمواقف الغربية والأميركية حيال المنطقة، أما وقد وقع محظور استدارة وتبدل المواقف، فهو لن يوقف الانجراف السياسي الحاصل لإعادة تموضع الطاغية السوري وحلفائه.

لا نبالغ؛ إذا قلنا إن تبلور وجهات نظر عربية، هي ظاهريًا مع ثورة الشعب السوري، لكن في مضمون الضغوط التي ترتدي عملًا دبلوماسيًا وعسكريًا في الساحة السورية، وما أفرزته أزمة حصار الدوحة من تداعيات على ملف الثورة السورية، بدأت تظهر ملامحه في إعادة التلويح والتبخير لمحور الممانعة من محوره المضاد ظاهريًا، فالحديث عن أن “الحرب ليست وسيلة لإخضاع المجتمعات”، ولا لتثبيت الطغاة أيضًا، هي مقولات تناقض مطلقيها، من موسكو وطهران وواشنطن، داعمي الطغاة والانفصال والتفكك، والأهم في الأزمات المستحدثة على الساحة العربية من حصار الدوحة إلى بيان استقالة الحريري، تظهر اصطفافات “التطهر” من الدم السوري.

بالتأكيد، صيغ شعار ضد الحرب وضد الإرهاب ليست بسبب الخسائر الفادحة والمآسي التي خلفتها على الساحة اليمنية، أو على كامل الجغرافيا السورية هي التي تلفت انتباه مواقف “تخترق” ما كان يبدو دعمًا لتطلعات الشعب السوري، ولا التهديد المفاجئ لمحور “الممانعة”، يغيّر من بديهيات راسخة في دم السوريين واليمنيين والعراقيين، تشطير المواقف وخلط الأوراق وافتعال الأزمات لن يغير طبيعة المواقف، على عتبة نهاية العام السادس للثورة السورية، ستبقى طهران هي ذاتها بأذرعها الظاهرة والخفية للإرهاب، بفرقها وميليشياتها من طهران إلى بغداد وبيروت، وتبقى الخيبة السورية، من سياسة عربية ودولية، تحكم ما آلت اليه أحوال الثورة السورية.

فقدت “الممانعة”، ونقيضها من الرجعية العربية، الأسس الأخلاقية والفكرية التي تحاول الاستناد إليها مجددًا، والاستناد إلى جدران من جثث ودماء، والنظر إلى تهديدات تطال من يفتك بالسوريين وأشقائهم، لجلب تعاطف أو تثبيت حق بقتل السوريين، يزيد في المحصلة النهائية المقصد للموانع التي وضعت أمام السوريين لقطف ثمار حريتهم، بعد أن أصاب العطب شعارات وثمار الممانعة، تُطرح من جديد في وجوههم “مخاطر” تهديد (حزب الله) أو طهران.

لجم إرهاب طهران وأذرعها في سورية، كان -وما زال- العنوان الأقوى لهزيمة الإرهاب، والمدخل لإسقاط طاغية وقاتل السوريين، دون ذلك تبقى لعلعة تطبطب على ظهر القتلة، ما الذي يضيفه صاروخ إسرائيلي في العدوان مثلًا على دمشق أو حمص على آلاف الصواريخ وعشرات آلاف الغارات والبراميل المنهمرة على مدار الأعوام الماضية، سوى اجترار الشعارات، حتى لو استهدف العدوان مقارّ حزب طهران في بيروت، لأن المحظور وقع وانتهى، لن يُعاد تنظيفه واجتراره مجددًا، لا الآن، ولا في المستقبل، ورطة الدم وثقلها وارتداداتها أكبر بكثير من أوهام الممانعين، ولن يخفف الوضع المأسوي الذي وصلوا إليه.

يعتقد البعض أن الابتعاد قليلًا عن الموضوع المسيطر: الثورة السورية، التي تُشكّل خطرًا كاملًا على محور عربي وإقليمي، يعيد تنظيم نفسه للقضاء كليًا على حلم السوريين وغيرهم، متناسين أن شعوبًا مختلفة، عاشت مآزق استطاعت التغلب عليها، ذلك أن مستقبل شعب لا يرتهن برغبات المتواطئين عليه، بل بقدرة الشعب على تجديد ذاته، وتجديد نضاله وطرق مقاومته، هذه بديهيات الصراع مع الطغيان تاريخيًا.

أخيرًا، نُضيف ما بات يقينًا أبديًا، كل المعارك والتحالفات تنجح بين قوى العدوان والطغيان، لكنها تفشل دومًا في حماية الأوطان والمجتمعات، والتاريخ يشق طريقه كخلد حاذق، فلا يُرى إنما ترى آثاره، وفي سراديبه المظلمة التي لا يراها أحد، هناك مساحة مضيئة، لمن يحسن التمييز بين ظاهر الأمور وجوهرها، وهو أحد منجزات الثورة السورية.


نزار السهلي


المصدر
جيرون