عن التفاهم الاستراتيجي الروسي الأميركي حول سورية!



تمر العلاقات الأميركية-الروسية، بأسوأ أيامها منذ انتهاء الحرب الباردة؛ فقد شهدنا قبل أسابيع عقوبات جديدة على شركات صناعة الأسلحة الروسية، لتضاف إلى جملة عقوبات سابقة، شملت شركات ومؤسسات وشخصيات روسية في مجال الطاقة والنفط والمصارف. كما اتخذت إجراءات تعجيزية ضد وسائل الإعلام الروسية العاملة في الأراضي الأميركية وخاصة قناة (RT) الإنجليزية، حيث أجبرتها وزارة العدل الأميركية على تسجيل نفسها كمؤسسة عميلة، وبالتالي أصبحت القناة الروسية معرضة لتهم بتمويل نشاطات غير شرعية في أميركا. حتى إن البعض اعتقد أن تكون هذه الشروط السببَ الحقيقي لإلغاء لقاء ترامب بوتين في فيتنام (التسجيل لدى وزارة العدل الأميركية، والاستحصال منها على هذه الصفة، سيعني لـ (RT)، قبل أيّ شيء، الإفصاح عن الأجور والرواتب والمكافآت التي تدفعها لموظفيها الأميركيين وغيرهم، والكشف عن جميع بيانات موظفيها، بما فيها أماكن إقامتهم وأرقام هواتفهم، في خرق صريح للقانون الروسي الضابط لحرمة البيانات الشخصية، ولحرية العمل الصحفي، وحتى المبادئ التي تتفانى واشنطن في حمايتها، شرقًا وغربًا). وأصبح البعض يتساءل: هل ستجبر الولايات المتحدة روسيا على انتهاج مسار الصين، وحجب الإعلام الغريب على أراضيها، وإقصاء الفضاء المعلوماتي الأجنبي بما فيه (غوغل)؟

أبدت الأوساط الرسمية والإعلامية الروسية، طوال الأيام الماضية، اهتمامًا ملحوظًا بالتحضيرات للقمة الأميركية-الروسية على هامش اجتماعات (آبيك). ونذكر بأن الرئيسين لم يلتقيا، منذ قمة العشرين في هامبروغ الألمانية في يوليو/ تموز الماضي، عندما اتفقا على إقامة منطقة وقف القتال في جنوب غربي سورية.

ترى إيلينا إيغوروفا في صحيفة (موسكوفسكي كومسوموليتس): “وفقًا لمعطياتنا، تم النظر قبل أسبوعين في أن يطير دميتري ميدفيديف (رئيس الوزراء) إلى فيتنام، على غرار ما حصل في العام 2015. ولكن اللقاء مع دونالد ترامب حسم الأمر هذه المرة؛ فعندما أعرب البيت الأبيض عن اهتمامه بتنظيم لقاء بين الرئيسين، ضمن أنشطة (آبيك)، قرر بوتين الذهاب”.

فبينما أعلنت وزارة الخارجية الروسية أن التحضير لاجتماع بوتين ترامب مستمر على قدم وساق، ولم يتبق أمام أجهزة المراسم في البلدين سوى تحديد موعد اللقاء، أعلنت المتحدثة باسم البيت الأبيض سارة ساندرز أنه لن يجري اجتماع، بسبب تعارض المواعيد بين الجانبين. وكان الناطق الصحفي باسم الكريملين قد صرح بأن هناك إشارات أميركية متضاربة، بشأن لقاء بوتين وترامب، في وقت أكد فيه مساعد الرئيس الروسي يوري أوشاكوف أن لقاء بوتين وترامب سيعقد يوم الجمعة 11/ 11/ 2017.

لم يخفِ الروس يأسهم من إمكانية عقد اللقاء، ومع ذلك صرح بيسكوف: نواصل العمل بِصَبرٍ للتوصل إلى تفاهم ما. لكن وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف علّق بجملة واحدة، على مساعي عقد لقاء بين الرئيسين بوتين وترامب: إن الأخير (أي ترامب) قال إنه يريد لقاء بوتين.

تجدر الإشارة إلى أن الرئيس الأميركي أعلن مرتين عن نيته الاجتماع ببوتين، على هامش قمة بلدان “آسيان”، ودول منتدى آسيا والمحيط الهادئ في منتجع (دانانغ) في فيتنام، لبحث جملة من القضايا الدولية، في مقدمتها ما يحيط بكوريا الشمالية، والأزمة السورية والتسوية في أوكرانيا. لكن الرئيس بوتين برر عدم عقد اجتماع منفصل مع الرئيس ترامب، بأنه مرتبط بجدول عمل السيد ترامب وبجدوله وببعض الشكليات المحددة في البروتوكول التي لم يتمكن الفريقان للأسف من تخطيها. وأضاف ساخرًا: “سينال المذنبون العقاب”.

كان اللقاء المزعوم بين رئيسي روسيا وأميركا الحدثَ الأهم في القمة، والشغل الشاغل للخبراء ووسائل الإعلام العالمية؛ ففي روسيا اعتبر رئيس لجنة الشؤون الدولية بمجلس الاتحاد الروسي قسطنطين كوساتشوف أن ترامب لا يملك الاستقلال السياسي في علاقاته مع الكونغرس. وأن سبب عدم عقد لقاء كامل القوام بين الرئيسين: بوتين وترامب على هامش قمة (آبيك) في فيتنام، يكمن في عدم وجود استراتيجية عمل واضحة، لدى ترامب تجاه روسيا.

أما الخبير في العلاقات الدولية، فلاديمير فرولوف فاعتبر أن موسكو تسعى لجعل التسوية السورية محورَ اللقاء، بحثًا عن الدعم الأميركي لمؤتمر (سوتشي). وقال: إن ذلك “سيعني أيضًا استمرار تصاعد المواجهة الأميركية الإيرانية، استكمالًا لقرار ترامب بدء إعادة النظر في الاتفاق النووي الإيراني”، مشيرًا، في الوقت ذاته، إلى أن زيارة بوتين إلى طهران، الأسبوع الماضي، أوحت بأن موسكو لن تشارك في أي قوة ردع في المنطقة، ضد إيران. وتوقع الخبير أن ترامب “سيحاول الحصول على تنازلات في ملف كوريا الشمالية، مقابل تقديم تنازلاتٍ ما في القضية الأوكرانية”.

وبعد مرور عام على انتخاب ترامب، لم تتحقق “الصفقة الكبرى” وآمال موسكو في اعترافه بضم شبه جزيرة القرم، ورفع العقوبات المفروضة عليها بسبب الوضع في أوكرانيا، والتعاون في الملف السوري، بل تم توسيع رقعة العقوبات. ودخل البلدان في أزمة دبلوماسية تمثلت في طرد الدبلوماسيين ومصادرة أملاك دبلوماسية، فيما يعدّ أكبر موجة تصعيد، منذ انتهاء “الحرب الباردة”، قبل ربع قرن.

نتائج المصافحة العابرة بين بوتين وترامب:

إلغاء الاجتماع بعد تأكيد ترامب مرتين رغبته في لقاء بوتين، وإعلان الكرملين أن أمر ذلك بيد الأميركيين، دفع العديد من التساؤلات إلى السطح، حول الدوافع واحتمال ارتباطها بضغوط داخلية، أجبرت ترامب -حسب مراقبين- على تحاشي الظهور أمام عدسات الصحفيين، خلال مصافحة بوتين، لكن الرئيس بوتين اعتبر تواصله مع نظيره الأميركي ترامب، على هامش قمة “آبيك” في فيتنام “ناجحًا”، واعتبر عدم عقد اللقاء مع ترامب “دليلًا على أن العلاقات بين روسيا والولايات المتحدة لم تتجاوز الأزمة بعد”، مؤكدًا: “نحن مستعدون لطي هذه الصفحة والمضي قدمًا إلى الأمام، وللنظر إلى المستقبل، وحل القضايا التي تهم الشعب الأميركي والشعب الروسي، وملء علاقاتنا الاقتصادية بمضمون جدي”. كيف لا، ورؤوس الأموال الروسية مخزنة في البنوك الأميركية والغربية، ومصالح النخبة الحاكمة في موسكو مرتبطة بقوة بالمؤسسات الغربية.

البيان الروسي الأميركي المشترك:

تمخضت المصافحة العابرة، بين الرئيسين الأميركي والروسي في قمة فيتنام، عن بيان مشترك بشأن سورية، بذلت من أجله مناقشات مكثفة وصعبة، امتدت عدة أشهر، حسب مصدر في وزارة الخارجية الأميركية.

لكن الرئيس بوتين أشاد بالبيان المشترك، لأنه: “أكد على بعض الأمور المبدئية. أولًا مواصلة محاربة الإرهاب، ما يعدّ أمرًا بالغ الأهمية، بالنسبة إلى الولايات المتحدة، على خلفية الأحداث المأسوية الأخيرة المتعلقة بالهجمات الإرهابية”. وصرح بوتين للصحفيين: “اليوم من الواضح أن الأعمال القتالية، للقضاء على بؤرة الإرهاب في سورية، تشرف على الانتهاء. والأحداث الأخيرة في جنوب شرق البلاد تدل على ذلك بالذات. وهذا كان -عمليًا- آخر معقل لـ (داعش)، و”الأهم الآن إنجاز هذا العمل، وتثبيت الاتفاقات بشأن مناطق خفض التصعيد، وتثبيت نظام وقف إطلاق النار وتهيئة الظروف لبدء عملية سياسية”.

من قراءة البيان يتضح ما يلي:

– إن أهم ما ورد فيه هو اتفاق الطرفين الأميركي والروسي على الحل السياسي في سورية، عبر جنيف والقرار الدولي 2245 وعلى وحدة الأراضي السورية، وهذا يعني أن رغبة الأسد وإيران في الحسم العسكري خط أحمر. لكن البيان -عمليًا- يتجاهل مقررات جنيف التي توصي بإنشاء هيئة حكم انتقالية.

– الاتفاق على الاستمرار في محاربة الإرهاب يعني إلغاء تنازع القوات المشاركة في القتال ضد (داعش)، وأنهم لن يدخلوا في صراعات، ما داموا يحاربون (داعش) والإرهاب. وفي هذا الإطار، اتفق الطرفان على الحفاظ على قنوات اتصال عسكرية مفتوحة بين المهنيين العسكريين للمساعدة على ضمان سلامة القوات الأميركية والروسية، على حد سواء.

– الفقرة السيئة في البيان هي الإشارة إلى “التزام الرئيس الأسد مؤخرًا، بعملية جنيف والإصلاح الدستوري والانتخابات على النحو المطلوب، بموجب قرار مجلس الأمن 2254”. وهذا يدلّ على أن الطرفين لم يتعرضا لمصير الأسد، بل على الأغلب، هما متفقان على بقائه ولو لفترة. ثم إن الروس كانوا قد دعوا منذ أيام، على لسان مبعوث الرئيس الروسي إلى سورية ألكسندر لافرنتيف، وكذلك في الدعوة لمؤتمر “سوتشي”، إلى وضع دستور جديد، بينما الأسد يرفض ذلك، ويدعو إلى إصلاح دستوري، وكذلك البيان المشترك يشير إلى الانتخابات من دون تفاصيل، بينما كان الموقف الروسي هو الدعوة لانتخابات رئاسية وبرلمانية، في وقت صرح فيه الأسد، بعد لقاء لافرنتيف، بأنه يريد انتخابات برلمانية. باختصار: البيان تراجع حتى عن التصريحات الروسية السابقة، فضلًا عن التصريحات الأميركية النارية، بحق الأسد وعائلته وأمور أخرى.

– أما إعلان الرئيسين عن التزامهم بسيادة سورية ووحدتها واستقلالها وسلامة أراضيها وطابعها غير الطائفي، كما هو معرف في قرار مجلس الأمن 2254، فتدعو للابتسامة الحزينة؛ لأن روسيا كرست تقسيم سورية، من خلال دعمها للأسد وتحالفها مع إيران وكذلك دخل الأميركيون على الخط، ودعموا قوات قريبة من نظام الأسد وإيران وروسيا، تسمي نفسها “ديمقراطية”، وكرسوا توزيع مناطق النفوذ في شمال وشرقي سورية. ولا نعرف ماذا يقصدون بوحدة سورية وسلامة أراضيها، هل تحت الانتداب الروسي الأميركي؟ ولماذا لا يذكرون استقلال سورية من القوى الأجنبية المحتلة؟ أما الطابع غير الطائفي للدولة السورية الجديدة فلن يتحقق ما دام بشار الأسد، أبو الكيماوي والطائفية في دمشق، لأن الصراع الطائفي كان أبشع سلاح، استخدمه النظام في تمزيق النسيج الاجتماعي، تحت شعارات كاذبة بالدفاع عن الأقليات والطوائف، وكذلك في ترويجه لمزاعم كاذبة عن الخطر السني ضد الأقليات الطائفية والعرقية (النظام وحلفاؤه، بمن فيهم الروس، حذروا من خطر انتصار الثورة السورية وتأسيس دولة سنية تهدد الأقليات!).

– اختلف الدبلوماسيون الروس والأميركيون، في تفسير البيان المشترك بعد إصداره؛ لأنه تضمن فقرة تشير إلى مذكرة المبادئ المبرمة في عمان بالأردن، في 8 تشرين الثاني/ نوفمبر 2017، بين الأردن وروسيا وأميركا التي تعزز نجاح مبادرة وقف إطلاق النار، لتشمل التخفيض والقضاء النهائي للقوات الأجنبية والمقاتلين الأجانب من المنطقة، لضمان سلام أكثر استدامة. علمًا أن مسؤولًا رفيعًا في وزارة الخارجية الأميركية صرح بأن المذكرة الثلاثية المشار إليها، “نصت على جلاء جميع القوات الأجنبية عن جنوب غربي سورية، بما فيها القوات الإيرانية والفصائل المسلحة الموالية لها، وأن روسيا وعدت ببحث هذه القضية مع السلطات السورية”، وأضاف المسؤول الأميركي أن مذكرة عمّان “تضمن بقاء جنوب غربي سورية تحت سيطرة المعارضة السورية، حتى إتمام التسوية السياسية لأزمة السوريين”. لكن ديميتري بيسكوف، الناطق باسم الكرملين الروس، ردّ على التصريحات الأميركية، داعيًا واشنطن إلى الكف عن محاولات تأويل نص المذكرة الروسية الأميركية الأردنية المبرمة في عمّان، في الثامن من الشهر الجاري، حول جنوب غربي سورية. بدوره، قال الرئيس ترامب للصحفيين: “توصلنا إلى الاتفاق بسرعة بالغة، سينقذ هذا عددًا هائلًا من الأرواح”.

في الغالب، التركيز الأميركي الروسي، على منطقة جنوب غربي سورية، مرتبط بأمن (إسرائيل)، وهذا يؤكد الهدف المشترك الأكبر الذي يفسر التفاهم الاستراتيجي، بين روسيا وأميركا في سورية، منذ أن زار وزير الخارجية السابق جون كيري مدينة سوتشي، في أيار/ مايو 2015، والتقى بالرئيس الروسي بوتين مدة 3 ساعات، وكذلك التقى بالوزير لافروف مدة 4 ساعات. وفي زيارته اللاحقة لموسكو جاء كيري حاملًا حقيبة كبيرة مليئة بالوثائق والخرائط المتعلقة بسورية، ليعرضها على الرئيس بوتين ووزيره لافروف.

وأخيرًا؛ لا بدّ من أن أختلف مع الخبير الروسي الذي يقول إنه لا توجد استراتيجية عمل واضحة، لدى ترامب تجاه روسيا؛ وأقول: إن عدم وجود استراتيجية معلنة لدى أميركا هو بحد ذاته استراتيجية، وهذا يتضح من الموقف الأميركي من الوضع في سورية، فالصمت الأميركي هو بحد ذاته موقفٌ سلبي، يفتح الطريق لروسيا وإيران، ومن معهما؛ ليفعلوا ما يشاؤون في سورية.


محمود الحمزة


المصدر
جيرون