on
“سوتشي” المتردد وروسيا النازية
“الطريق إلى سوتشي يمر من البوكمال”، هذا ما كان يجب أن يكون عليه عنوان المقال؛ لولا أن سبقني إليه مركز (كاتخيون) للدراسات الروسية، بزعامة ألكسندر دوغين، الروسي العنصري الباحث عن مجد روسيا مجددًا كقطب عالمي آخر. وهو، أي دوغين، صاحب النظرية السياسية الرابعة: سياسة الحلول الجيوبولتيكية، التي تعني فرض الحلول السياسية بحكم وقائع الأرض ومجريات العمل العسكري فيها، بديلًا عن كل من الليبرالية والاشتراكية والنازية الألمانية السابقة له؛ ما جعَلَ ثلاثية الأرض والممرات البحرية والدول الإقليمية المحيطة بموسكو -سواء في دول ما كان يسمى أوروبا الشرقية أو آسيا، والتي يسميها “الأواسالية”- محطَّ اهتمام واستحواذ روسي، جغرافيًا وسياسيًا وعسكريًا، كما في القرم وسورية وقبلها جورجيا.
بناء على هذا النظرية، وعلى توصيات دوغين: الأب الروحي لبوتين؛ حدد المقال المشار إليه موضوع “سوتشي” في المبدأ، على أنه تتويج سياسي لعمل عسكري أولًا. فحيث تكاثرت الأقاويل حول مؤتمر سوتشي، وتعددت المبررات والأسباب لانعقاده من تأجيله، فمرة تم تأجيل موعده، وأخرى سحبت الدعوات الثلاث والثلاثون من صفحة الخارجية الروسية، وأخرى تم إلغاؤه؟ وما زالت مفاعيل التحليل السياسي تأخذ حيزها، وتتكهن في أسباب ذلك التردد، على أن سببه المباشر هو رفض القوى السورية للمعارضة، ممثلة بالائتلاف الوطني والهيئة العليا للمفاوضات، هذه الدعوةَ المواربة لـ “سوتشي” من قبل الخارجية الروسية، تحت عناوين متعددة منها: أنه مؤتمر “شعوب سورية”، حسب التصريحات الأولى للافروف، وأخرى أنه مؤتمر للحوار الوطني السوري، بحضور نجباء النظام من الأحزاب المرخصة المنضوية في جبهة وطنية، قوامها عشرون حزبًا تدّعي المعارضة زيفًا، وبعض الأحزاب الكردية التي تحاول الانسلاخ عن سورية أصلًا، على أن كل ذلك هو السبب الرئيس في تأويلات “سوتشي” وترددها، ويبدو هذا فيه وجه حق نسبي، لكن هل هو كل السبب؟
في هذا السياق، يحدد المقال “الطريق إلى سوتشي”، بمعبرٍ واضح عسكريًا، هو البوكمال، على أن البوكمال هي عقدة الوصل العراقية السورية، حيث سينفتح الطريق من موسكو إلى طهران إلى بغداد، ومنه إلى حمص فدمشق فبيروت، وممره الإجباري بات البوكمال. فبعد التفاهمات الروسية الأميركية، تم استبعاد معبر التنف من المخطط الروسي، كما أن تغاضي الروس، عن قوات (قسد) في معارك الرقة، أتاح الفرصة للنظام للتوجه إلى دير الزور، ومن ثمّ الميادين، ولم تبق سوى عقدة البوكمال. وإن نجحت في الوصول إليها بغطاء سلاح الجو الروسي، وما تقوم به من استخدام لقاذفاتها الاستراتيجية وقصفها المتنوع للمدينة، سواء من المتوسط أو من قزوين؛ فإن ذلك يشير إلى جدية الروس في الوصول إلى المدينة، قبل غيرهم من القوات، خاصة بعد انحسار (داعش) في العراق وسورية، وتبخرهم من كل مدنها سوى البوكمال، وقلة من بعض القرى هنا وهناك. فالسباق إلى البوكمال يعني -بالمبدأ والأساس- إحكام السيطرة على أهم معبر بري للروس، وفقدانه أو وقوعه بيد الأميركيين، ومن يتحالفون معهم، سواء من القوات الكردية أو فصائل المعارضة، يعني أن كل الجهود الروسية السابقة قد ذهبت أدراج الرياح؛ ما يجعل أي مؤتمر سياسي، كـ “سوتشي” وغيرها، لا معنى له ما دامت لم تزينه بعمل عسكري يفرض شروط الجيوبولتيكا التفاوضية، وهذا يبدو السبب الأساس في التردد، حول انعقاد المؤتمر وخلاف الخارجية الروسية ووزارة دفاعها حوله.
في خلفية المشهد، أن المسار الروسي، بعد معركة حلب أواخر العام الماضي 2016، حدد ما بعدها، ومع انطلاقة مارثون أستانا، منذ أوائل العام الحالي 2017، رسمت الدبلوماسية الروسية مسارَ المسألة السورية، بشكل سياسي يهدف إلى موضوعتين تكتيكيًا:
الأولى تثبيت نصرها العسكري في حلب، بانتصارات سياسية متلاحقة على صعيدي الداخل السوري، عبر مسار أستانا واتفاقات “خفض التصعيد”، بغية عدم تورطها بعمل عسكري واسع على شاكلة معركة حلب، ما يجعلها تستثمر انتصارها العسكري سياسيًا بأقل الخسائر، وتسعى لتدويله بديلًا لجنيف ومقرراته.
الثانية ضمان ثبات أقدامها في المعركة ضد الإرهاب المتمثل بـ (داعش) و(النصرة)، حتى تثبت حضورها العالمي مجددًا، كقطب منفرد قادر على إثبات وجوده العسكري والسياسي على امتداد ساحة واسعة من محيطها الحيوي، تبدأ من القرم مرورًا بسورية فإيران فالصين، كيف لا وهي المنتصرة أول مرة في حرب دولية على الإرهاب!
ربما ذهب كثير من المحللين الاستراتيجيين إلى أن مسار المسألة السياسية الدولية هو هدف روسيا الرئيس من كل مجريات المرحلة وصعوباتها، بحيث تستطيع روسيا أن تعود قوة ثانية عالميًا، كمثيلتها الولايات المتحدة، لذلك فقد نجحت باستثمار ضعف النظام السوري وحاجته إلى الحفاظ على وجوده في سلطة الحكم، بحيث يحقق لها ما كان ينظر له ألكسندر دوغين ويحلم به بوتين. لذلك فهي تعمل عسكريًا من جهة، وسياسيًا من جهة أخرى، بطريقة متواكبة تحرز من خلالها تقدما واضحًا على مستوى حضورها الدولي، غير مبالية بالأعراف الدولية ولا بحقوق الشعب السوري، حتى لو استخدمت الفيتو للمرة التاسعة فيه، بغية منع أي قرار دولي مُلزم للنظام، مستخدمة حقها الكارثي في ذلك، وطريقته المجحفة بحق الشعوب في مجلس الأمن.
السؤال، عن نجاح الروس أو فشلهم، يبقى مرهونًا بشروط تفاهماتهم مع الأميركيين والأتراك، في ما يتعلق بمنع التمدد الإيراني في المنطقة؛ ما يجعلها تستغني عن البوكمال، وبالتالي عن “سوتشي”، والاكتفاء بالمرور عبر تركيا إلى كل من أوروبا وآسيا العربية، وإلا؛ فإنها ستستعجل الوصول إلى البوكمال، ومن ثمّ إلى “سوتشي”؛ لتحمل معها بذلك تهميشَ أي قوة سياسية معارضة، لم يعد لديها ما تفاوض عليه؛ ولينجز محور روسيا-إيران وجودَه وعمله العسكري، وعلى السياسية أن تتبعه، وهذا مرهون بشروط الفعل والعمل على أرض الواقع، في الأيام القادمة، طالت أم قصرت.
يبقى لمدينة “سوتشي” -كما لمعظم المدن السورية اليوم- نكهةٌ خاصة، تذكر بوتين، ومن خلفه دوغين، بماضي روسيا القيصري والنازي، حيث غزتها القوات الروسية عام 1864، وشردت سكانها الشراكس الأصليين، في كل دول الجوار، وفرضت توطينهم فيها سياسيًا، وعملت على أن يبتعلهم البحر، إلى درجة أن يقال إن سكان المدينة اليوم لا يأكلون من سمكه لكثرة ما ابتلع من أجدادهم ذلك الوقت. ليست مصادفة أبدًا أن تكون “سوتشي” هي آخر مطافٍ، يسعى له الروس من المسألة السورية، بعد أن تشرد شعبها في كل بقاع الأرض، وابتلع البحر منهم الآلاف، في مشابهة تاريخية تعيد إلى الأذهان مجددًا موضوعة النازية الروسية، في صورة جيوسياسية جديدة، قوامها الدم السوري.
جمال الشوفي
المصدر
جيرون