الأفلام التسجيلية السورية.. وثيقة بصرية للخراب



تنجو صدقية الواقع بإعادة تثبيتها بصريًّا. الصورة الفوتوغرافيّة تنفع هنا، والشريط السينمائي ينفع أيضًا؛ كلاهما يمنعان الواقع من الهروب إلى الأمام، يخفيانهِ عن صيرورة الحركة وهي تحرز متواليةً حقيقيّةً في هدم الزمن. فالواقع أكثرُ نقاءً داخل الكادر البصري، سواء كان كادرًا ثابتًا أم متحركًا، وإعادة استنطاقهِ تكون متاحةً أكثر، ومتحررةً من قيود معاجم اللغة، والأفلام التسجيلية السورية حققت شرطًا مهمًا من شروط البقاء، إذ قاومت خصائص الإلغاء الاجتماعي لحوامل التغيير المحتملة، ونبذت سكونَ المجتمع، منذ قرر المخرج السوري عمر أميرلاي السخريةَ الذكيّة من نظام دولة البعث، في فيلميه المعروفين: (الدجاج)، (الطوفان)، وكلاهما من إنتاج التلفزيون السوري الرسمي، لكن فيلم (الدجاج) يظلُّ فيلمه الأهم، حيث الكوادر المتقنة التي تبثّ الحياة في منطقة “صدد” المتاخمة لخط التصحّر، وهي تعيش انتقالًا براغماتيًا، من صناعة العباءات التقليدية إلى تربية الدجاج.. فيلمٌ ذكيّ حافظت الأنتلجنسيا السوريّة على تناقله، قبل ازدهار الإنترنت، وأدواته.

غير أن معزوفة الخراب أخذت تتسع بعد العام 2011 على نحوٍ غير مسبوق، استطاعت تفكيك المكوّن المادي والبشري للمجتمع.. خرابٌ عمراني، وآخر إنساني يمكن استنتاجهما بجردةِ عينٍ سريعة لخارطة البلاد، ولا يمكن تبسيطهما بسلسلةِ أفلامٍ تسجيلية، ابتدأت بمونتاجٍ سريع لمقاطع فيديو، التقطها الناشطون بكاميرات هواتفهم المحمولة للتظاهرات المدنية، ومن ثمّ لفظائع آلة القصف العسكري، مرورًا بأفلامٍ حملت بصمةَ مخرجين محلّيين معروفين، مثل الفيلم التسجيلي (ماء الفضة)، وهو ثمرة تعاون بين المخرج أسامة محمد المقيم في فرنسا، والناشطة السوريّة وئام بدرخان (حاز على جائزة أفضل فيلم وثائقي في مهرجان لندن للأفلام عام 2014)، وصولًا إلى تلك التي وقف على إنجازها أسماءٌ عالمية مثل فيلم (صرخات من سوريا) للمخرج الأميركي من أصلٍ روسيّ يفغيني أفينيفسكي (مدته ساعتان، وهو من إنتاج العام 2017).

ثمة مستويان للعمل على الفيلم التسجيلي، لدى الناقد ومخرج الأفلام الوثائقيّة الاسكتلندي المعروف جون جريرسون، يكون صانع الفيلم في المستوى الأول (الأعلى) ملتزمًا بجميع قواعد إخراج الفيلم الوثائقي، قادرًا على إجراء تحليلٍ معمّق، وقادرًا كذلك على الابتكار والخلق، فيما يعتمد المستوى الثاني (الأدنى) من الأفلام التسجيليّة على التقارير المصوّرة والأفلام التعليميّة والريبورتاجات، وفي هذا المستوى ينعتق المخرج من معظم قواعد صناعة الفيلم كمدّته، وإطاره العام، واستخدام تقنيات المونتاج، والمؤثرات الصوتية، والموسيقا المرافقة. وبحسب هذا التصنيف المنهجي، فإن القسم الأكبر، من الأفلام التسجيلية السورية التي وثّقت دمار البلد، ينتمي إلى المستوى الأول، لا سيما الأفلام المنتجة بعد العام 2014.

لكن الأفلام التسجيلية السورية المتاح رفعها مجانًا من (يوتيوب) قليلة جدًا، أغلبها ينبغي شراؤه من منصّات تحميل الأفلام على شبكة الإنترنيت، وفيلم (وداعًا حلب) أحد الأفلام القليلة التي يمكن مشاهدتها من قبل الجميع، صوّره أربعة ناشطين، ونالوا جائزة مهرجان (روري بيك) البريطاني لهذا العام، كأفضل مصوّرين صحفيين، والفيلم مدّته خمسون دقيقة تقريبًا، يبدأ رصدَ الحياةِ الشحيحة، شرقي حلب بتاريخ 15/ تشرين الثاني/ نوفمبر 2016، وينتهي بخروج مقاتلي المعارضة المسلحة وذويهم، بعد تاريخ 15 كانون الأول/ ديسمبر 2016، شهرٌ كامل هو الإطار الزمني الفعلي للفيلم، وقد حاول صانعوه تثبيت مشهديّة الدمار الذي لحق بأحياء حلب الشرقية، (الكلاسة، صلاح الدين، بستان القصر)، عبر الاستمالة الحسّية التي تمليها الكوادر التصويرية الواسعة، والوقوف على خطوط تماس الحياة اليوميّة، وهم يرصدون تفاصيل حياتهم في المكتب الإعلامي، أو حين تصويرهم لأحد اجتماعات المجلس المحلي في شرق حلب، مستخدمين اللقطات القريبة التي تؤطر في كادرها، إمّا يدًا تمسكُ بقلم، أو يدين وصاحبهما يتحدث، أو تلك التي تقدّم وجوه الحاضرين.

ولعل معظم الأفلام التسجيلية السورية التي تناولت بداية الثورة وامتدادها العسكري، انقسمت في موضوعها إلى قسمين: أحدهما وصفي تقريري، يتناول طبيعة الحياة داخل المكان، وما آلت إليه من هذيان لا يحتمل، مثل فيلم (194، نحن أطفال المخيم) لمخرجه سامر سلامة، وفيلم (300 ميل) للمخرج عروة مقداد، والآخر يوثّق حياة أشخاص كان لهم دورٌ محوري في مسار الثورة العام، أو داخل تفاصيلها، مثل فيلم (العودة إلى حمص) لمخرجه طلال ديركي الذي سجّل يوميات عبد الباسط الساروت، ونال جائزة لجنة التحكيم بمهرجان (سندانس) الأميركي، كأفضل فيلم تسجيليّ أجنبي لعام 2014. أو فيلم (غاندي الصغير) ومدّته حوالي ساعة ونصف (من إنتاج عام 2016) لمخرجه سام القاضي الذي يتناول حياة الناشط السوريّ غياث مطر، بعدما قضى تحت التعذيب داخل فروع الأمن السوريّة.

عام 1948 رأى الاتحاد الدوليّ للسينما التسجيلية أن الفيلم التسجيليّ هو: “كلّ أساليب التسجيل على فيلمٍ، بحيث يتناول مظهرًا من مظاهر الحقيقة، ويُعرض بوسائل التصوير المباشر، أو بإعادة بنائه بشكلٍ صادق، بغية تحفيز المشاهد على اتخاذِ موقفٍ محدد، أو لتوسيع مدارك المعرفة والفهم الإنساني، أو لوضع حلولٍ واقعية لمختلف المشكلات في الاقتصاد، أو الثقافة، أو العلاقات الإنسانية”.

يحدد جون جريرسون -الأب الروحيّ للفيلم التسجيلي- شروطًا أساسيّة، لإنجاز فيلمٍ تسجيليٍّ حقيقيّ، أولها الاعتماد على التنقل، والملاحظة، والانتقاء المباشر من الحياة الواقعيّة، وهذا ينطبق أيضًا على اختيار أشخاص الفيلم التسجيلي ومناظره، خلافًا للأفلام الروائيّة التي تعتمد على ممثلين محترفين، وعلى مشاهد تبنى داخل استديوهاتٍ مغلقة، كما أنّ مادة الفيلم التسجيليّ يتمُّ اختيارها من النسق الواقعي للحياة، أي من دون تأليفٍ مسبق.

ولعلّ تعميم الخراب الممنهج داخل سورية، خلال السنوات الماضيّة، أيقظَ فضائل التسجيل، والتوثيق البصريّ له على نحوٍ غير مسبوق، وأنجزَ مجموعة أفلامٍ تسجيليّة جابت أصقاع الأرض، وحطّت فوق منصّات الجوائز العالمية مرّاتٍ كثيرة لتتنفّس، وهي بذلك قدّمت رثاءً أمينًا لخرابٍ، جرى إنتاجه في أكبر أستوديو للتصوير الحيّ عرفهُ التاريخ البشريّ، بلا خدعٍ سينمائيّة، أو إعادةِ تصويرِ اللقطة. أستوديو بمساحةِ بلد، والمنتجون الحقيقيون للفيلم السوريّ، يواصلون تقديم الجوائز.


أيمن الشوفي


المصدر
جيرون