الثورة في مواجهة الخديعة الكبرى



في الأشهر الأولى من الثورة، أطلق ثوار “حي الصليبة” في سورية، لقبَ (الشبيحة) على القوى التابعة للنظام، والتي مارست العنف ضد المتظاهرين الأول في اللاذقية، وعلى الرغم من أنّ ظاهرة التشبيح والشبيحة ارتبطت بفئة المهربين وتجار السلاح، والخارجين عن القانون، من أسرة الأسد وتوابعها، في بداية التسعينيات، إلا أنّ إطلاق الثوار لقب (الشبيحة) على مُطلقي الرصاص الراغبين في تلقين المطالبين بالحرية من أهل اللاذقية درسًا، يعلمهم جرم التفكير بالخروج عن سلطة الأسد، يحمل دلالات وطنية؛ كون الثوار الأوائل من أهل اللاذقية لم يريدوا أن يطلقوا شعارات معادية للجيش أو للسلطة الأمنية، ولا حتى للطائفة العلوية التي ترى بالمجمل المعركةَ من أجل الحرية معركةً مع طائفة السلطة المهيمنة، وهذا ذكاء فطري وأخلاقي كبير من الثوار، على الرغم من يقينهم ومعلوماتهم بأنّ جمعًا طائفيًا وصل إلى أطراف اللاذقية، يرغب في أن يلقّن أهل “الصليبة” درسًا في الأدب، كونهم خرجوا على أسيادهم من بيت الأسد! وأنّ من مارس القتل والسحل والملاحقة والمراقبة على أبواب المساجد هم من القوى العسكرية والأمنية، برمزية طائفية واضحة.

ومن طريف الحديث وعجيبه، أنّ لقب (الشبيحة) يعني -في ما يعنيه- في مادته اللغوية؛ (شبح): ما بدا لك شخصه غير جليّ من بعد. وشبح الحرب: مقدمات الحرب وأولياتها. شبح الموت: مقدمات الخراب والدمار.

فالسنّة في اللاذقية لم يكونوا راغبين قطعًا في إطلاق أي شعار استعدائي للطائفة العلوية، لذكائهم العفوي والاجتماعي، بحساسية وخصوصية اللاذقية، ولإصرارهم على شعارات ثورتهم التحررية الوطنية الجامعة.

يزعم كاتب هذه السطور أن المؤسسة الأمنية في اللاذقية -على الرغم من أقسى المشاهد العنفية التي رآها في مواجهة المتظاهرين- بقيت لاجمةً رغبةَ قطعان الشبيحة الطائفيين (من العلويين الحمقى غير المتمدنين فقط) من أن تفعل بأهل اللاذقية ما فعلته في “عين البيضا” و”الحولة”، ويرجع هذا الأمر -برأيي- إلى تواصل رجال الأعمال الكبار من السنّة، وعلاقتهم القوية مع أجهزة الأمن، بألا يسمح للقوى الميليشياوية الطائفية بأي ممارسات ضد سنّة اللاذقية.

لقب “الشبيحة” يمثّل قمة النبالة السنية والبساطة؛ لأنه يمثل الهروب من المنطق الطائفي والقراءة الطائفية، بالرغم من وجودها عند السلطة ومؤيديها، في حين أن السلطة ومؤيديها أطلقوا لقبًا موازيًا إلى لقب “الشبيحة”، ومناظرًا له في الوطنية، فكان لقب (المندسين) في بداية الثورة، ولقب (الغرباء) على حملة السلاح لاحقًا، أي أنّ السلطة ومؤيديها أيضًا هربوا من التوصيف الطائفي، فهم لا يريدون أن يقولوا: إنّ من خرج من المساجد مطالبًا بالحرية هم أهل السنّة، ولم يريدوا أن يقولوا: إن من يحمل السلاح على الدولة وأجهزة الأمن هم السنّة، وإنما “الغرباء”، وهو معنى يناظر الشبيحة في دلالته: إنهم لا يريدون أن يقولوا إنّ السنّة حملوا السلاح علينا! وهذا يمثل قمة ذكاء السلطة إعلاميًا؛ كونها لا تريد أن تقول إنها معركةٌ، بين العلويين والسنة، في حين أنها على الأرض تطهر كل سنّي يرغب في الطلاق من هذه السلطة! (الزبداني، المعضمية، داريا، جبل أكراد اللاذقية، بداما، جسر الشغور..).

سورية لينا وما هي لبيت الأسد، في مقابل “الأسد أو نحرق البلد”، إنه شعار الوطنية في مقابل الخيانة الوطنية.

على الرغم من براءة اللقب السني المطلق (الشبيحة) على مطلقي النار، على الأحرار والمتظاهرين وصدقيته، فإنّ في إطلاق لقب “المندسّين” و”الغرباء”، على من تظاهر ثم حمل السلاح، يمثل الخديعة الكبرى، وثوب الوطنية المزيف الذي أجاد ارتداءه النظام.

صحيح أنّ النظام كان يصدر لمؤيديه أنّ بين المتظاهرين “مندسين”، فإن هؤلاء “المندسين” بلغ عددهم في سجون النظام ومعتقلاته ما يزيد عن 500 ألف معتقل، بين مفرج عنهم، وبين مغيبين ومختفين، وبين محكومين وبين مقتلويين تحت التعذيب، أي أنّه أجاد لعبة ابتعاده عن الخطاب الطائفي المضاد للثورة إعلاميًا، ولكن واقع حاله قيامه بإعدام عشرات الآلاف من المتظاهريين السلميين طائفيًا!

في حين أنّ مشهد سنيّ طائفي واحد يعكر على البعض إيمانهم بهذه الثورة، عندما قام عسكري محسوب على الثورة بقتل عسكري عند محاصرته، وهو يحمل البندقية، وهو منطق مقصود، ويتجاهل سيرورة العنف الثوري وتقلباته المؤلمة، والحق يقال:

من لم تجذبه الثورة في بداياتها لن تشده الثورة في نهاياتها، إنّه الإيمان أولًا. الإيمان بالوطن كان مفقودًا، والإيمان بالأسد والمؤامرة كان مهيمنًا!

ومع أنّ النظام أطلق هو وأنصاره على من حمل السلاح لقب “الغرباء”، ويقصد جنسيات من غير السوريين التونسيين والشيشان والليبيين (على قلّة وجودهم)، كما يزعم في تبرئة المحيط السني من حمل السلاح؛ فإن ذلك لم يمنع واقع الحال من تحويل مدن السنّة وقراهم إلى قاع صفصف وأحياء خربة، ولم يكن، في حقيقة الأمر، من غريب على هذا النظام إلا من يخرج عن عبوديته.

الغريب في الأمر أنّ بعض الكتابات المعارضة للنظام ما تزال تُكتب بنَفَس تشبيحي، ولكن هذه المرة بمعناه اللغوي، كونها تهرب من التوصيف الحقيقي لما جرى في سورية، بل إن البعض من هؤلاء الكتّاب يريد أن يقول لنا بالعامية: (ما حدا قصّر مع حدا، بمعنى في نظام قتل ناس وكمان في نصرة وداعش) حتى إنه يجعل هجوم (داعش) و(النصرة) على قرية علوية وقيامهما بأسر نساء بطريقة حقيرة ومشبوهة، مساويًا لكل ما قام به النظام، وكأننا ننسى أن (داعش) و(النصرة) ميليشيات إرهابية طارئة، لا تُمثّل حقيقة السّنة، في حين أنّ ما فعله النظام من إرهاب طائفي لمدة 40 عامًا ما كان ليكون؛ لولا وجود دعامة طائفية اجتماعية له هذه الدعامة الطائفية أولًا وأساسًا، التحق بها كثير من أصحاب المصالح غير الوطنية من غير العلويين.

في الختام أقول: مجاملات أربعين عامًا دفعنا ثمنها ما لم يكن في الحسبان، وبداية المواطنة الصحيحة هي التوصيف الصحيح للعقدة الطائفية في سورية؛ بهذا المعنى يمكن أن تكون الحرية للكل رغمًا عن الكل، وربما تكون هذه الثورة، في المستقبل البعيد، حريةً لأنصار النظام أكثر من كونها حرية لخصومه ومعارضيه وضحياه!


منصور حسنو


المصدر
جيرون