“تصحيح” الأسد في تصحير سورية



كان أي شارعٍ يُفتتح أو يُعبّد في سورية، أو أي “مؤسسة” تُبنى، يعدّ منجزًا، وكان يجب أن يُزيّن ذلك “المنجَز” بقطعةٍ من الرخام، منفور عليها وجه حافظ الأسد، ويُدوّن عليها أنها من منجزات “الحركة التصحيحية” التي قرن النظام مناسباتها السنوية، بافتتاح المنشآت الخدمية والصحية والتعليمية، وكانت تُخترَع مناسبات، على سبيل المثال لا الحصر، كحفل تخريج ممرضين وممرضات، معلمين وعسكريين، كما اخترع يوم عمل تطوعي ومناسبات كثيرة، وكانت تُنصَب الحفلات والدبكات تمجيدًا لانقلاب حافظ الأسد على رفاقه البعثيين، في السادس عشر من تشرين الثاني/ نوفمبر 1970، واغتصابه السلطة الذي غير مسار الحياة في سورية والمنطقة. ظل الأمر رتيبًا وثقيلًا يسيطر فيه اسم الأسد ولغته، على كل شيء في سورية، وأصبحَت مهمةُ كل ما يتعلق بحركة الأسد التصحيحية إخفاءَ بشاعة ما ارتكبه.

كل فاصلة أو تفصيل صغير، من حياة السوريين، كان مرتبطًا بفكرة “مُنجزات” الأسد، وأفضاله التي شملت المجتمع والاقتصاد والسياسة والرياضة والتعليم والصحة والثقافة والفكر، إضافة إلى الزراعة. في ظل تلك المنجزات، كانت تُؤسس في سورية “منجزات” كبرى من الخوف والقمع والاضطهاد، يعود فضلها الوحيد والحقيقي إلى الأسد، وتختفي الحقيقة، خلف الحشود التي كانت تُساق لتحتفي بما مَنَّ عليهم به “الأب القائد”. لم تعد فكرة الحق حاضرةً في قاموس العلاقة بين الحاكم والمحكوم، فقد سيطرت فكرة عطاءات الأسد حتى على حبوب البذار للفلاحين، فكانت المحاصيل الطبيعية لسورية، مع غلالها وتسويقها، ثمرةً من ثمار الحركة التصحيحية.

في عهد “تصحيح” الأسد، لا شأن للفلاح أو الطبيب والعامل والطالب، بالجهد الذي يبذله، إن لم يكن برعاية “أبوية” منه، فما كان من السوري إلا أن يتأمل أحوال العالم، ويلتف على حزنه وخوفه، يرثي جزءًا من ماضيه وأجزاءً متعددة من مستقبله الذي ارتبط بـ “الأبد”، وبقَدَر الأسد الأب والولد، ولكأن دور المواطن السوري انحصر في تأمل مجتمعات أخرى، وابتلاع حسرات تاريخه، كل شيء حوله زُوّر “بالتصحيح”، واستؤنف بالتوريث، بعد ثلاثة عقود من اغتصاب السلطة، لينغلق الباب أمام أي تأملات أخرى، تخطر ببال السوريين. فالمحافظةُ على بطانة “التصحيح” أو التزوير، من أجل البقاء في سلطةٍ عملت على تفكيك عوامل صحة المجتمع، أو توهمت أنها حققت تطويع وتدجين كل السوريين، هي المقصود من وراء انقلاب الأسد، وتلك هي المهمة التي عمل على ترسيخها.

تبدلت قشرة التصحيح مع رحيل الأسد الأب، وتوريث الابن قشرة “التحديث والتطوير والانفتاح”، ثم ما لبث أن كشف السوريون أن القشرة تنتمي إلى ثمرة فظيعة أكثر سمّيةً وفتكًا لكل من يحاول تقليبها، ما يقارب 48 عامًا مضت على انقلاب الأسد، وستة أعوام على سقوط كل عفن الثمار، ومنجزات الموت والدمار تضاف إلى “مفخرة” الأسدين التي كانت ظل ادعاء التصحيح وعماد استمرار التوريث، فعل احتضار الأحلام كان الباب الذي أوصده الأسد على سورية، ورمى مفاتيحه بعيدًا في سراديب ومقابر وزنازين، ظنًا منه أن الأحلام لن تعود مجددًا.

المباهاة بالتزوير والخوف والقمع، كانت مهمة “تصحيح” الأسد الأب، والخروج بوجه كل سوري ليكون ذبيحًا وقربانًا لفكرته، كانت مهمة الأسد الابن مفتاحها ربيع مغدور، أسقط تلك المباهاة، وعراها الشعب السوري في محاولته المستمرة صياغة طريق حريته الذي اختاره قبل ستة أعوام، كشف عن ورم كبير وخبيث، نجم عن فعل “التصحيح” والتوريث، أعلن فك ارتباطه مع الأسدية إلى الأبد، كم هو مرعب هذا الإعلان، وكم هو باهظ الثمن الذي يدفعه الشعب السوري لقاء شفائه من علل التصحيح الذي أثمر تصحيرًا لحياتهم السياسية، وبذرَ أشواكًا دامية في درب آلامهم.

فعلها السوريون بعد خمسة عقود، وأدهشوا أنفسهم بتغيير مسار التاريخ، أسقطوا الأسد ملايين المرات في صدح حناجرهم، وأسقطوا أوهامه للأبد، محاكمتهم لتاريخه وحاضره وتعريته أمامهم هو المنجز الأهم في تاريخ سورية الحديث، والذي سيكتب وصفة الشفاء لكل العلل التي بدأت وقَرنت اسم سورية، بالأسد المريض بوهم الخلود، كل المنجزات التي ارتبطت معه هي عناوين كبرى للموت والدمار والعار، أما ما تحقق في كل الميادين الأخرى، ففضله يعود إلى السوريين وحدهم، فمن يمتلك جسارة وجرأة الانتفاض على إرث الأسد، هو من أبدع في كل المجالات التي تعيد التصحيح الحقيقي إلى مسار تاريخهم.


جيرون


المصدر
جيرون