(كبرت حين ضاق القميص)1



تعد السيميائية أحد أهم المناهج التي حاولت اكتشاف أسرار النص الأدبي، من خلال خلق فضاءات دلالية وإشارية، تهدف إلى قراءة المعنى الحيوي الآخر في الخطاب الأدبي، وليس الاكتفاء بما يقول الكاتب بشكل مباشر، فهي تحاول تجاوزه إلى ما لم يقله. وعلى هذا يعتمد النقاد ضمن هذا المنهج إلى مجموعة من العلامات التي تفتح آفاق النص واحتمالاته.

فالسيميائية قضية تواصل بين المبدع والقارئ، حيث تصبح العملية النقدية عملية موجهة، والبحث في معاني النص، عند السيميائيين، يقتضي ملاحظة البنى الداخلية، وما يحكمها من شفرات وعلامات تميز لغته، وكذلك رصد العلامات التي تحكم تلك اللغة، وبالتالي تحدد دلالاتها وأبعادها من خلال المحيط، لذلك نجد أن السيمياء كما عرّفها فرديناند دي سوسير هي: “عبارة عن علم يدرس الإشارات أو العلامات داخل الحياة الاجتماعيّة“(1) وسنقف بدراستنا لهذه المجموعة على:

أولًا ـــ الفضاء السيميائي للعنوان:

نجد أن عنوان المجموعة قائم على التوازي والتماثل بين طرفين، فلن يتم النمو إلا عندما يضيق القميص. وهي مقاربة قائمة على التوازي المعاكس، فالمفترض أنه (عندما كبرت أصبح القميص ضيقًا علي، وفي تلك المفارقة دلالة على النضج والاكتمال في الأزمات التي إن لم تصب بمقتل؛ فإنها تجعل الإنسان أقوى وأنضج.

هذه الترميز المعاكس إشارة إلى الوطن المسلوب للحرب، إذ ضاق على أحلام أبنائه، فجعلهم يكبرون في منافيه قبل أوانهم.

طبعًا في العنوان سيمياء إشارية، تحيل أيضًا إلى قول: (كلما اتسعت الرؤية ضاقت العبارة) لكن ببنيات لها مدلول واقعي لا رؤيوي. فهذا القميص الذي قد يمثل قميص الغدر الذي جعل يوسف يكبر بعيدًا عن أبيه، فيصبح في المستقبل المنقذ لأهله وعشيرته ووطنه.

ثانيًا ــ سيميائية الفضاء النصي:

تشغل المجموعة فضاءات عدة ومتعددة، ولكن يسيطر عليها فضاء الحرب والمأساة السورية، ابتداء من طغيان العناوين الموحية بذلك “عندما كانت المقصلة سنبلة، السقوط الحيُّ، عكاظ الدفء، ديكتاتور، من سيرة البحر البريء، من مذكرات غريق، خيل اليتامى، القلوب خيام الأرض) فقد تمكن الشاعر أن يوظف مفردات الحرب ضمن فضاء نصي متعدد الرؤى، خالقًا صورًا متحركة منسجمة متناغمة تنصهر ضمن بوتقة اليوميات الإنسان المسحوق بآلة الحرب، ضمن حقل دلالي غني فيها، فنراه يقول:

هي ذي البلادُ

رغيفُ خُبزٍ يابسٍ،

وفمٌ يعيشُ على حروف البسملة

ويدٌ تُمدُّ إلى السماء،

نداؤُها:

يا ربُّ إنّي بالقبُور مُكبلة.

فالفضاء النصي الذي تكونت صورة البلاد فيه من الناحية الشكلية، هو الشكل العمودي، ولكن الشاعر تلاعب بتوزيع التفعيلات على هيئة الشكل الحر، لتكون مساحة الخطاب توازي مساحة البياض، حين يقلل منها في أسطر، ويكثر في أسطر أخرى، تبعًا للموقف وللحالة الانفعالية، وخصوصًا أن الحالة كانت متشظية، والبلاد تحولت إلى موات ويباس تكاد تكون فيها الحياة معدومة إلا من شفاه ما كلت عن الدعاء والاستغاثة. وحين يصل إلى نهاية النص، تكون حالة التشظي قد وصلت إلى أقصاه، فالأمل مفقود والأب عاجز والأم تحاول لململة هذا التشظي من عيون صغارها، فيقول:

وأبٌ يزُفُّ فُؤادهُ للقحط..

يبكي فوق جُثمان الحبيب،

ليغسله

أُمٌّ تُفسّرُ للصغير دُمُوعها

فعلى يقين الملح

تعلُو المقصلة

هذا الفضاء يحجز مساحة كبيرة على امتداد المجموعة، كما ذكرنا، وحددنا العناوين التي تطرقت لمأساة السوريين، فثقلها يحفر في وجدان الشاعر، لذلك نراه سابحًا في ذلك الفضاء، ولكن مع محاولات لا بد منها لبعث الأمل في النفوس، فيقول:

خُذي ما تساقط

لكن دعي ما تبقّى

لكي يستطيع الرّبيعُ ابتكار الزّهُور

لكي أجعل الّليل بابًا يُطلُّ على حُلمنا

في قُرانا الشّهيدة

خُذي ما تساقط

لكن دعي ما تبقّى

خُذي من حُرُوفي عرُوض الخليل

بلاغة جُرح الشّهيد،

ولكن دعي للعُيُون الحنين، ووزن البُكاء

لأنّ البلاد تُريدُ اكتمال القصيدة.

في هذا الفضاء، يخلق الشاعر فضاءً حواريًا يعبّر من خلاله عن مساحات الألم والأمل على حد سواء، فهذه الأنثى يريدها باعثة للخصب والتجدد، فقد أقام معها علاقات درامية متأصلة، هدفها نسخ الماضي وجب الآلام.

الشفرات تتكامل هنا من خلال علائق تحاول أن تشحن القارئ ثم تفرغه، فبنية (خذي) تتكامل مع بنية (ولكن دعي) على مساحة النص وفضائه؛ محاولة خلق مشهدية درامية واستدعائية تلقائية لصورة البلاد في الحنين والزهور والليل. فتتداعى إلى أن ينتهي المشهد بخلق حيز كبير لحالات الضياع والتيه التي تعيشها الشخصية الشاعرة.

وهنالك أمثلة عدة على هذه الفضاءات الخاصة به، من مثل قوله:

الآن أسمعُ صوت أُمّي:

يا عجاف العُمر…

تسهُو..

يستفيقُ سحابُها

في صوتها الصّلواتُ خاشعةٌ

وسطحُ الدّار

في سفر الصّدى

محرابُها.

في هذا المقطع، يتجلى الفضاء الخلاق والمغاير في أصدق تعبير عن حالته النفسية والتأزم الداخلي بنبرة عالية، فالسنوات العجاف تسهو عندما يسهو السحاب، والمفروض أنها تنتهي عندما تغادر السحاب ويجيء الغيم، فنراه خلق فضاء غير الذي كنا نتوقع، وإشارات لا نكاد نقرؤها إلا عندها، لذلك خشعت الصلوات على ألحان صوتها الدافئ الشجي، والمفروض العكس.

كل هذا المفارقات النصية جعلت الفضاء النصي -عند حيدر هوري- فضاء خصبًا متجددًا، فيه الكثير من الحياة، في خضم هذا الموات والخراب.

ثالثًا ـــ سيميائية اللغة:

إن الإشارات اللغوية -في الأغلب الأعم- تروم تقصّي المرجعيات الجمالية في البنيات المفتاحية المهيمنة على تحولات النسق ورصد السمات المائزة لفرادة البنى للإبانة عن ديناميتها الناتجة عن نقاط المغايرة والمسؤولة عن إنتاج الدلالة.
ودراستنا للجانب اللغوي في المجموعة ضرورة؛ لنرى كم ساهمت هذه الأساليب في صنع دلالات القصائد، التي ساعدت في تحوير معاني النص، وفق غايات الشاعر وأهدافه ثم مشاعره، فمنها:

أــ الضمائر:

في هذا الفضاء، نرى المساحة القولية ترتكز على الذات والضمائر التي تعود عليها فهي أبرز سمة موجودة في النص، وهذا يشير على قوة الفاعلية وتحكم الشاعر بسياقات الخطاب، فكل ذلك يجعل الأنا هي أنا مقتدرة حتى في حالات الانهزام، فنجد أنه قد أكثر من تاء الفاعل مثلًا (امتلأتُ، صرتُ، سئمت، سقطت، كنتُ، حاولت، انهزمت… إلخ).

والفعل المضارع الذي يستتر وراءه الضمير العائد على الفاعل (أهجئ، أفتح، أشيل، أنمو، أفيض، ألمح …. الخ).

ياء المتكلم (رائحتي، علي، عمري، انتظاري، مدراي، رؤاي، خطاي، ظلي، غيابي، شجري اضطرابي، كاهلي، قلقي، حبري، ضلالتي).

وطغيان ضمير الأنا، بأنواعه المتعددة، يؤكد فرضية الثبات والفاعلية، ولكن هذه الفاعلية كانت معطلة إلى حد بعيد في أطر التوقع والقدرة الممكنة في سياقات الحرب والحديث عنها.

ب ــ الأسلوبية:

نجد أن الشاعر قد كرار بعض الأساليب والتراكيب والمفردات، ليشاكل بين الإيقاع الموسيقي مع تدفق المشاعر والأحاسيس ونقلها إلى المتلقي بحساسية عالية، من مثل:

أسلوب النداء كقوله: (يا عجاف العُمر، يا شمعة الأرواح، يا حليبًا قاب رُوحين وأدنى، يا طافحًا بالبُعــــد، يا وزنها المفطُورُ، يا ليلُ.. هجّئ حُزننا… إلخ). وهي كثيرة على امتداد المجموعة، اشتغل الشاعر على الدرامية ومخاطبة الآخر من خلالها، فأغنت الأسلوبية في المجموعة.

واستخدم أسلوب الاستفهام بكثرة، ولكن كان أقل من النداء، ومنه: (كيف صار الفتى نخلة..؟ هل يُجدي الوقُوفُ على الحرُوف السّاكنة، كم عدونا -هذا الطّريقُ دليلي- هل يشبعُ الفُقراءُ، لو رنّ الجرس؟! هل يُفضحُ القتلى؛ إذا صارُوا مراثي في قصائدنا، هل سار بي نحو الحقيقية؟.. إلخ).

ونلاحظ أيضًا حضور أسلوب النفي بكثرة والتمني أيضًا، فكل هذه الأساليب كانت ظواهر بارزة في النصوص صعدت من حركية فضائها، ومساحة القول عنده، وعفوية الطرح، إلى حد يفوق التوقع والاندهاش، لما يكتنفها من جدلية التناقضات بين الأنا والآخر.

خاتمة

هكذا إذن تبدت لنا مجموعة (كبرت حين ضاق القميص) عالمًا مفتوحًا للتأويلات النصية، لأنها قبل كل شيء خطاب ورسالة وصلتنا عن طريق لغة غير منغلقة، لغة تقبل التأويل من خلال إشارات كثيرة متعددة ومكتنزة، في لغة غير مثبتة الحيز. “وبهذا لا يستهلك النص نفسه، كما أنه يقدم للقارئ مفاتيح الإثارة، ويأسره في حركته، بحيث لا يغيب عنه منظوره بوصفه الوجه الآخر للحياة.

1ــ حيدر هوري: (كبرت حين ضاق القميص)، دائرة الشارقة للثقافة والإعلام، الإمارات العربية المتحدة، حكومة الشارقة، 2017

2ــ فرديناند دي سوسير: محاضرات في علم اللسان العام، ترجمة عبد القادر قنيني، ط1، 1987، أفريقيا الشرق، الدار البيضاء، ص:18


محمد طه العثمان


المصدر
جيرون