ألبير كامو



“لا أبغض العالم الذي أعيش فيه، ولكني أشعر بأني متضامن مع الذين يتعذبون فيه. أحاول أن أدافع عن بعض القيم التي من دونها تصبح الحياة غير جديرة بأن نحياها، ويصبح الإنسان غير جدير بالاحترام”. ألبير كامو. (1913-1960)

هو ذلك المولود الفقير اليتيم السيئ الحظ الذي اكتشف، فيما بعد، وهو في السابعة عشر من عمره، أنه مريض بالسل، ليظل هذا المرض رفيق السنوات الثلاثين التالية لحياته؛ ثم ليصبح فيما بعد فيلسوفا وجوديًا وكاتبًا مسرحيًا وروائيًا فرنسيًا -جزائريًا،

ولد كامو في قرية (الذرعانن) بمقاطعة (قسطنطينية) في الجزائر، في بيئة شديدة الفقر من أبٍ فرنسي، قُتل بعد مولد ابنه ألبير بعام واحد، في إحدى معارك الحرب العالمية الأولى، ومن أمٍّ إسبانية، أميّة، صماء، تقرأ الشفاه لتفهم محدثيها.

لم يعرف كامو عن أبيه سوى اسمه، وبعض الصور وحكاية ذات دلالة، تتلخص في شعور الأب بالقرف أمام مشاهد الإعدام التي كانت تنفذ في الحرب، ليكمل حياته مع أم صماء فقيرة، عادت إلى بيت والدتها، بعد موت زوجها. وكانت جدة “ألبير” قاسية، متكبرة، ومسيطرة، وهي من ربّته وأخاه “لوسيان”، وقد أجبرَت ابنتها على العمل في بيوت الأغنياء، لتكسب قوت يومها وطفليها.

كان لـ “كامو” شخصية ذات نمط خاص، ونموذج فريد؛ فالكاتب ذو اللغة الفريدة، البسيطة والعميقة، لم يسمع لغة أمه التي اقتصرت مفرداتها على عدد يسير من الكلمات، تستخدمها في أشد حالات الاحتياج للنطق، بسبب صممها الذي لم يعرف “كامو” إن كان قد انتابتها، بسبب مرض التيفوئيد الذي عانت منه في مراهقتها، أم أن صدمة خبر وفاة الزوج في بريطانيا، إبّان الحرب هي التي سببت لها هذا الثقل اللغوي.

كانت علاقته بأمه شديدة الخصوصية؛ إذ لم تنطو على تبادل لغوي، لكنها انطوت على الكثير من الحنان والعطف الذي يشعر به ابنٌ، إزاء أمٍّ محدودة الإمكانات المادية، والجسدية والذهنية في الوقت الذي أجبرت أن تكون مسؤولة عن نفسها وعن ابنيها. كانت ترى فيه ذلك الابن الواعد الذي سيعوضها عن فقد الزوج وسنوات الألم، دون أن تمتلك الوسيلة للتعبير له عما يدور بنفسها. لذلك، روى في مذكراته أنه حين شاهدها، وهي تمسك صورته وتنظر إليها بحنان، هبّ صارخًا: “إذن؛ هي تحبني.. نعم تحبني”.

كان حين يستيقظ من النوم، ولا يجدها في المنزل؛ يخرج إلى الشرفة ويبحث عنها بعينين متلهفتين عبر الشرفات المحيطة، علّه يجدها تعمل في إحدى بيوت الجيران، وإذا وجدها؛ تابعها في صمت إلى أن تعود. قال عنها: “أمي.. هي أكثر قضية آمنت بها في الوجود”.

تمكّن كامو، رغم قساوة ظروف حياته، من إنهاء دراسته الثانوية، ثم تعلم في جامعة الجزائر، من خلال المنح الدراسية التي أعطيت له لتفوقه ونبوغه، وهكذا تخرج في قسم الفلسفة بكلية الآداب. وقيل إنه كان يأخذ قصاصات الجرائد والمجلات القديمة من البقاليات التي كان يعمل فيها في طفولته، بعد انتهاء يومه المدرسي، لمساعدة والدته، ليقرأها بشغف متميز، وهو ما زال في مراحله الأولى من فك الحرف.

كان فيلسوفنا قصة حياة نابضة.. مناضلة.. حزينة.. متصارعة لإثبات إنسانيته، وترجمة مباشرة لظلم الأقدار، فهو الضمير الحي الصارخ في الظلام: “لا يكفي أن ننكر الظلم، بل يجب أن نمنح حياتنا لمحاربته”. في عام 1935، وبعد سنة من انضمامه إلى الحزب الشيوعي، وإنشاء المسرح العمالي وإخراجه كثيرًا من الروايات، ولعب بطولة بعضها؛ تمرد “كامو” على الحزب الشيوعي؛ لأنه رأى أنه فكر يفرض العنف على الإنسان.

إن رفضه الشيوعية -كحزب سياسي- لا يعني رفضه الاشتراكية كمبدأ. بل إنه آمن بالاشتراكية كحل لمشكلة سوء توزيع الثروة، لذلك لم يترك مناسبة إلا دعا فيها للاشتراكية، وإتاحة تكافؤ الفرص للجميع. وقد قال عن نفسه: “الحقيقة، أنني لم أتعلم الحرية من كتب ماركس؛ لقد تعلمتها من الفقر”.

على الرغم من أن “كامو” كان روائيًا وكاتبًا مسرحيًا في المقام الأول، إلا أنه كان فيلسوف الوجود والحب والموت والثورة والمقاومة والحرية، فقد كانت فلسفته تعايش عصرها. حيث انخرط في المقاومة الفرنسية، في أثناء الاحتلال الألماني، وأصدر مع رفاقه في خلية الكفاح نشرة باسمها، ما لبثت بعد تحرير باريس، أن تحولت إلى صحيفة Combat (الكفاح) اليومية التي تتحدث باسم المقاومة الشعبية، واشترك معه في تحريرها صديقه الفيلسوف (جان بول سارتر).

كانت قناعاته وأفكاره ورواياته ومسرحياته ترجمةً مباشرة لظلم الأقدار، وقيادتها للإنسان، مهما بلغت ثورته عليها ورغبته في تحديها، من أجل ذلك أهل لجائزة نوبل عام 1957 في سن الرابعة والأربعين، لينالها، ويكون ثاني أصغر من نالها من الأدباء، ويشترى بقيمتها بيتًا فخمًا في إحدى الضواحي الفرنسية، بعد أن تزوج مرتين وأنجب ولدًا وبنتًا.. هو ذاته الذي كوّن صداقات ثمينة مع مشاهير عصره مثل جان بول سارتر (قبل اختلافهما)، وصداقته التاريخية مع ميشيل جاليمار، ابن شقيق “جاستون جاليمار”، صاحب دار النشر الشهيرة الذي ارتحل معه على درب الموت.

مما لا شك فيه أن مرَض كامو كان صدمة مزمنة جديدة في حياته، ووصف ذلك: “أضاف عوائق أخرى أكثر ثقلًا مما كان لديَّ في ذلك الوقت، إلا أنه حرر قلبي نهائيًا، وباعد بيني وبين المشاكل البشرية التي كانت تملؤني دائمًا بإحساس البغض.. لقد تمتعت بفضله بحياتي.. بلا حدود ولا ندم”. على الرغم من تلك الآلام المكتظة، استطاع ألبير كامو أن يتحدى الحياة، وأبهر العالم أجمع بإنتاجه الفكري والأدبي المتفرد.

كان أول مؤلفات كامو عام 1937، وتحت تأثير صدمة المرض، كتابًا بعنوان (الظهر والوجه)، ولم يكن قد تجاوز الرابعة والعشرين حينذاك. ثم بعد ذلك بأقل من عام، صدر كتابه (أفراح)، كما ألف كتاب (الجزر)، وهو عبارة عن مقالات فلسفية لأستاذه جان جرينييه الذي كان له الفضل الكبير في يقظة وعيه بعمر مبكر. إذ قال عنه في مذكراته: “كنت بحاجة إلى أن يذكرني أحد بطبيعة الإنسان الفانية.. وهكذا أدين لجرينييه بالشك الذي لن ينتهي، والذي منع إيماني الضيق أن يصاب بالعمى، أنار لي جرينييه فكرة التناقض الذي يتسم به الوجود والقلق، الذي ينخر في سعادة الإنسان إزاء هذا التناقض”.

في عام 1937 عاوده المرض، وزادت وطأته عليه هذه المرة. وبدلًا من الاستسلام له اختار أن يحترف مهنة الصحافة، بعد أن عمل كبائع قطع غيار، وراصدٍ في مرصدٍ فلكي في جنوب الجزائر حيث تعرف على البربر، وقبائل البدو، واشتغل كاتبًا في مأمورية الشرطة، حيث احتكَّ مباشرة ببؤس الإنسان، وشقاء الفقراء. وكنتيجةٍ متألمةٍ لذلك؛ اعتبر أن الصحافة هي عمل فلسفي مكتمل الأركان، وقد عرَّف الصحفي بـ (الناقد)، وبأنه (مؤرخ يومًا بيوم).

لكن تمرده المميز، ورفضه للظلم وغبنه، أخافا ودفعا الرقابة الفرنسية على الصحف، إلى إخراجه قسرًا من الجزائر، وترحيله إلى فرنسا حيث هي أصوله، ليتابع مسيرته النضالية والروائية بإيمان فلسفي متسع الأفق، بعيدًا عن عجز الفقر وظرفه، ضد الاحتلال النازي، ليَعرف لاحقًا أن كراهيته للعنف، كانت أقل من كراهيته للأنظمة القائمة على العنف، وليقر أن العبث إنما هو رغبة مجنونة في الوضوح الواعي، لمقابلة هذا العالم اللاعقلاني: “العبث ليس هو العالم، ولا الإنسان، وإنما هو العلاقة التي تربط العالم اللاعقلاني بالإنسان”.

توالت روايات كامو، بينما كان يطغى اليأس على الجميع، في ظل الاحتلال النازي لباريس، فنُشرت رواية (الغريب) التي شكلت صدمة فكرية خاصة، وبعدها بوقت قصير أصدر مؤلفه الفلسفي (أسطورة سيزيف)، وهما عملان حازا على شهرة واسعة، ثم توالت أعماله ومسرحياته الدرامية، التي تَدين العدمية المعاصرة، والتمرد الفوضوي وعبادة القوة. وأعلن أن الصفة الجوهرية (للعبث) هي استعصاء العالم على الخضوع للمقاييس العقلية؛ لأن العقل عنده محدود، ولا يستطيع أن يصل إلى عقلنة الوجود، ولكنه هو وسيلة الإنسان الوحيدة الموصلة إلى الحقيقة.

كان لكامو رأي خاص بالرواية والروائي وفلسفتها: “إذا أردت أن تكون فيلسوفًا؛ فاكتب روايات”. “الرواية ليست إلا فلسفة في هيئة صور”. “أنا لست سوى فنان، والفنان بداخلي هو الفيلسوف؛ وذلك لسبب واحد بسيط، وهو أنني أفكر وفقًا للكلمات، وليس وفقًا للأفكار”. إذًا هو فيلسوف فنان، لم يفصل يومًا حياتَه الشخصية عن مغامراته الفكرية، يمارس باستمرار اللعبة المزدوجة لحياة يكتبها، وكتبٍ يحياها.

هذا النوع من الفلاسفة هو نوع يبتكر سلوكًا وأسلوبًا، في الوقت الذي يؤلف فيه عملًا أدبيًا، فهو تارة يعطي قرّاءَه تفاؤلًا، وأملًا.. وأخرى يُلفت أنظارهم إلى اللامبالاة الناعمة وسوء الفهم في قلب الحالة الإنسانية، لكن القدر يعذب ويسَرِّع من أجَلِ المميزين..

لم يمته السل المزمن الذي أصيب به في مراهقته، والذي أصبح رفيق السنوات الثلاثين التالية لحياته، فقد قُدِّر له أن يموت ميتة بقضاء وقدر غير متوقعين! الكاتب الثائر الذي طالما تساءل عن معنى الحياة، ومشاقها ومتاعبها، والذي طالما أعيته العلاقة بين الإنسان والإله: “أحتاج أن تصمت الكائنات من حولي، وأن تسكت ضوضاء القلب المُريعة هذه.. الحب… هو الهروب من ذلك الوجود اليائس الذي نحيا فيه”. هو الذي طالما تحدث عن الانتحار وعلاقته بعبثية الحياة.

في صباح يوم 4 حزيران، 1960 كان ألبير كامو قد اشترى تذكرة سفر في القطار المتجه إلى باريس من إحدى ضواحيها، حيث كان يبيت ليلته، إلا أن صديقه الأعز ميشيل جاليمار، ابن شقيق “جاستن جاليمار” صاحب دار النشر الشهيرة، أصر على اصطحابه معه في سيارته، ليرتحلا معًا على درب الموت، وقد رجحت الأقوال أن السرعة الجنونية وانفجار أحد إطارات السيارة، كانا السبب في الحادث الذي أودى بحياتهما معًا، على طريق (فيلبلوفان) باريس، ليموت “كامو” على الفور، ولينقل “جاليمار” إلى المستشفى، لاحقًا بصديقه الأعز، بعد أسبوع واحد.

لكن تذكرة القطار التي وجدت في جيب “كامو”، والمسودة الخطية لعمله الأخير غير المكتمل: (الإنسان الأول) التي وجدت أيضًا في حوزته، تؤكدان أنه -على الرغم من كل حيرته وتساؤلاته عن جدوى الحياة- كان محبًا للحياة ومقبلًا عليها؛ لذلك قال: “الخريف هو ربيع ثانٍ، حين تكون كل ورقة زهرة”.


سوسن سلامة


المصدر
جيرون