الدستور وآفة التقديس



كثيرة هي الجرائم التي ارتكبها النظام السوري بحق المجتمع، وأثّرت في منظومة الأخلاق والمفاهيم والمبادئ، وكثيرة هي أفعاله التي استهدفت العقل ونخرته، ونجحت في ترسيخ مفاهيم ما قبل الدولة، مفاهيم لا تصلح لأي مجتمع في العصر الحديث.

أخطر ما قام به النظام السوري أنه أرغم البشر على تقديس الزعيم، ووظّف كل إمكانات الدولة، وكل عسف الأجهزة الأمنية، وكل وسائل الإعلام والتعليم، ليزرع هذا المبدأ في النفوس والأخلاق، ويُغيّر القيم والمنطق، ويحيّد العقل؛ وهكذا “حَشا” في رؤوس العباد وقناعاتهم أنه الأوحد الفريد الأبدي، الذي لا غنى عنه ولا بديل، لم تلد امرأة مثله ولن تلد.

خمسة عقود، من التخريب والتدمير والانهيار الأخلاقي والفكري، أقنعَت قسمًا كبيرًا من السوريين بأن البقاء في الكرسي والسلطة والمنصب هو أمرٌ طبيعي، بل “حقّ” لـ “الزعيم”، ومن يأتي بعده من سلالته؛ فصار المجتمع لا ينظر بعين الغرابة إلى مَن يلتصق بالكرسي أو المنصب، سواء أكان الرئيس أم بطانته، أم رئيس حزب، أم مسؤولًا في أجهزة الأمن، وصولًا إلى مخاتير القرى، وحديثًا إلى “زعماء” المعارضة.

بات كثير من السوريين يرون أن المنصب فُصِّل لهم، وأن من حقّهم الالتصاق به حتى الموت، أو تجهيز الابن ليرث الأب، ويرون أنفسهم فوق القانون، وفوق الدستور، في تركيبة حرَمت الأجدر والأقدر، وقضت على مفاهيم التداول والتعددية والديمقراطية.

الأمر لا ينطبق على النظام السوري من رأسه حتى أخمص قدميه فحسب، بل ينسحب أيضًا على كثير من المعارضين، الذين لم يكونوا أحسن حالًا، حين تمسكوا بمناصب ثورية وهمية، لا تُسمن ولا تُغني من جوع، والتصقوا بها، يلعبون بالمؤقت ريثما يأتيهم الدائم، بانتظار الفرج وتغيير النظام، ليتربّعوا على الكرسي بدلًا عنه، فهم “الدرّة الفريدة” التي تخجل منها جواهر تاج قيصر.

طوال خمسة عقود، عمل النظام السوري على نشر آفة التقديس و”الالتصاق”؛ ونجح، وتناقلها كثير من السوريين كبديهيات، جيلًا وراء جيل، وتغلغلت في عمق عقولهم، وفي قرارة وعيهم؛ وصار من الصعوبة بمكان إقناعهم بأن كل النساء ولدت مثلهم، إن لم يكن -في الغالب- أفضل منهم.

يبدو أنه من الأصلح، لتجاوز هذه الآفة، أن يؤكد دستور سورية المأمول، على أن الرئيس يبقى في منصبه لدورة رئاسية واحدة فقط، لخمس سنوات لا تُمدّد؛ حتى يعتاد السوريون على أن الرئيس يأتي وسيذهب إلى منزله بعد خمس سنوات، وأن هناك رئيسًا حاليًا، وآخر سابقًا، وهو حيّ يُرزق، وليفهموا أن المنصب لا يدوم -ولا ينبغي له أن يدوم- لأحدٍ، ولا يُسمح لأحد بـ “الالتصاق” به، على أن يُمنَع تغيير هذه المادة من الدستور، لخمسة عقود مقبلة، حتى يمر جيلان، يعتاد خلالهما السوريون على مبدأ التداول الإلزامي، وعدم التقديس، على أمل أن يُصلح الدستور ما أفسده النظام.


باسل العودات


المصدر
جيرون