فخري البارودي



“بلاد العرب أوطاني.. من الشام لبغدان.. ومن نجد إلى يمنٍ.. إلى مصر فتطوان”، من منّا لم يحفظ أو يسمع ذاك النشيد، للكاتب والشاعر والسياسي السوري فخري محمود البارودي!

ولد البارودي عام 1886 في حي القنوات بدمشق، لأسرة ميسورة الحال، وتلقى تعليمه الابتدائي في المدرسة (العازارية)، وبعدها مدرسة (الريحانية)، ثم درس المرحلة الثانوية في (مكتب عنبر)، ونال الشهادة عام 1908.

بدأ حياته المهنية كاتبًا في (محكمة الاستئناف)، وانضم إلى الحراك الوطني السوري منذ بدايات القرن الماضي، وأخذ يدعو إلى “يقظة العرب وحريتهم”، كما باشر الكتابة -بِاسم مستعار- في جريدة ساخرة، كانت تصدر في دمشق بعنوان (حط بالخرج)، تنتقد أوضاع البلاد، ثم سافر خلسة إلى فرنسا، لإكمال تعليمه، لكن والده أصر على عودته، لمتابعة أملاك العائلة وأعمالها.

انتسب البارودي عام 1914 إلى مدرسة الضباط الاحتياط، وأصبح ضابطًا في الجيش العثماني وشارك في الحرب العالمية الأولى، فأسره الإنكليز في معركة (بئر السبع) في فلسطين، ونقل إلى سجن (قصر النيل) بالقاهرة، ليفرج عنه بعد ذلك، لكنه لم يلتحق بالجيش العثماني، بل شارك في (الثورة العربية الكبرى)، ورافق فيصل بن الحسين في دخوله دمشق، عام 1916.

تم تعيينه مديرًا لشرطة دمشق، إلى أن جاء الاحتلال الفرنسي لسورية، فغادر البلاد وانتسب إلى الجيش الأردني، لكنه ما لبث أن ترك العمل العسكري وعاد إلى دمشق، ومع انطلاق الثورة السورية الكبرى عام 1925 ضد الفرنسيين، أخذ يدعو الناس للمشاركة فيها، وأصبح بيته مكانًا يجتمع فيه الثوار، فاعتقلته قوات الاحتلال ووضعته في سجن القلعة بدمشق، وبعد الإفراج عنه تابع نشاطه السياسي وقارع الاحتلال. ثم ساهم في تأسيس (الكتلة الوطنية) عام 1927، وانتخب للبرلمان السوري عام 1928، واستمر فيه عدة دورات متتالية، حتى عام 1947.

أسس عام 1936 (فرقة القمصان الحديدية) من الشباب، لتكون رديفًا لجيش وطني؛ فاعتقلته سلطات الاحتلال مع بعض أعضاء الكتلة عام 1936، ونفته إلى مدينة الحسكة، فعمّ الإضراب عدة مدن وخاصة دمشق، بما سمي (الإضراب الستيني) الذي استمر 60 يومًا، إلى أن أفرج الاحتلال عن المعتقلين، ومنهم البارودي الذي استُقبل في دمشق بحفاوة وتقدير.

والبارودي هو من دعا -حينئذ- إلى مقاطعة البضاعة الأجنبية، وأطلق (مشروع الفرنك)، وهو أن يدفع كل سوري خمسة قروش في الشهر، لدعم القضايا الوطنية. وفي عام 1939، خلال الحرب العالمية الثانية، اتهمته فرنسا بدعم الثوار بالسلاح، فغادر إلى الأردن خشية الاعتقال، وبقي عامين.

ساهم البارودي في تنشيط الحركة البرلمانية، وفي وضع الدستور السوري، وكان يدفع نحو تبني مشاريع التنمية الداخلية، وكل هذا لم يبعده عن حبه للفن والآدب، حيث عمل بعد الاستقلال على إحياء التراث الفني العربي في الموسيقى وغيرها، وقد أسس معهدًا للموسيقى. ودعم تأسيس عدة فرق موسيقية، وكتب لها الأناشيد المختلفة، وله ديوانا شعر هما (تاريخ يتكلم) و(قلب يتكلم)، كما كتب مذكراته في جزأين طبعًا في بيروت، وألف عدة كتب منها “فصل الخطاب بين السفور والحجاب، مذكرة شرطي، تشكيلات وقيافة عسكرية، كارثة فلسطين، الصلح مع (إسرائيل)”.

كان منزله ملتقًى ليس للسياسيين فقط، إنما الكتاب والشعراء والفنانين، وحوت مكتبته عددًا كبيرًا من المؤلفات والمخطوطات المهمة، لكن الأحداث السياسية التي جرت في دمشق، في 18 تموز/ يوليو 1963، تسببت في أن تلتهم النيران تلك المكتبة؛ الأمر الذي كان له أثر كبير عليه، حيث انطوى في عزلة مع نفسه.

توفي البارودي الرجل المتعدد المواهب والإمكانات، وذو الروح المرحة -كما كان يوصف- في مشفى المواساة في دمشق، في أيار/ مايو 1966، حزينًا فقيرًا، لا يملك إلا معاشه الذي يتقاضاه من الدولة، وقد ودعته العاصمة التي أحبها إلى مثواه الأخير، في مقبرة (باب الصغير)، بحفل مهيب، كأحد قادة الحركة الوطنية، الذين خدموا البلاد، ولم يبخلوا عليها بجهد ولا مال.


حافظ قرقوط


المصدر
جيرون