موقـد الـوقت إلى عـادل



عرفت أحدهم.

كأشباح الضباب، هائمين على هامش الضوء، بهدوء الغبار، حطّوا علينا يذرفون أحلامهم بسخاء الكرام، هيفاء الرؤى، غزيرة المعاني، باهظة الألم.

مثل جوقة إغريقية متمرّسة، اتقنت تلمّس الإله في عطر وردة، طافوا حولنا يؤدّون مناسكهم أمامنا همسًا كل مساء، برشاقة الخيول الوحشيّة، جابوا كواليسنا الضيّقة الواطئة المعتمة، يشعلون قناديل الزيت المعلقة على جدرانها الحجرية الباردة، الغارقة في القِدم.

غنّوا للريح ألحان القمح، والحُب، والحريّة، والحرب، والأرض، والورد، والعنب، والفقر، والصدق، والتعب، والدمع، كما غنّوا عن الخذلان والعتب، وعن شقاء قلوب الأمهات المنتظرات عيونًا طال غياب وجوه أصحابها. لم تُسمع أناشيدهم، في حينها، إلا نزلاء العتمة والليل والوحل الحالمين بالنور.

عرفت أحدهم؛ فعرفت بعضهم.

بينما كان الكل أمواتًا أو خدارى أو جليدًا، ضجّت رؤوسهم صخبًا بالأمنيات، وغلت قلوبهم بحرارة الخطو الحثيث نحو غدٍ مختلف، بشغف النار لقصَلِ صيف حارق، التهموا الأسئلة، بحثًا عن رشفة جمال احتجب خلف ابتسامة طفلة، وجدت كسرة ممحاتها الضائعة، وعن لحظة حق خجولة تحوم في صدر مظلوم، تصعد العنق ثم تغور، تحاول التحرّر من محبس حنجرة مبحوحة حانقة، وعن رغيف خبز، وعن كأس ماء، وعن حبّة زيتون مجعّدة، كوجوه الآباء المتحلقين حول موقد الوقت المنتظرين عودة الضائعين في الحرب.

لم تكن من ثورة، حينها كانت المدن تخاف جدرانها، وتخاف ظلال الملاقط على حبل غسيل، عندما تحدّوا المقصلة. كانوا ينتظرون ثورة، بينما لم يدركوا أنهم هم الثورة.

عرفت أحدهم؛ فعرفتهم كلهم.

إذ حضروا بيننا خفافًا، كالشهداء المنتظرين بصبر نوافذ السماء الموصدة حتى ينبلج معراجها، عاشوا معنا ثقالًا، كالآيات المحكمات. بشجاعة من لا يملك شيئًا، دون كلل، جابوا أزقّتنا كالنمل المثابر، يستنهضون أرصفة ذليلة غارت عن شوارعها، دَفنت ألوانها المتعاقبة المزابل، ودنّست أعمدة نورها صور القادة التافهين، وبول كلاب الحرس والعسس والمخبرين، وشوّهت جنباتها أقمشة متّسخة بالية، كُتب عليها كلمات جميلة كاذبة، تمجّد انتصارات جميلة كاذبة لكذّابين بشعين.

عرفتهم.. لم يكن لليلهم معنى السكينة والهدوء، كانوا يحرثون دروبهم باليقين، فإذا نال من أوصالهم التعب؛ تحلّقوا حول موقد الوقت يطعمونه أعمارهم، ويستدفئون بالأمل والنبيذ. حتى إذا ما بزغ الفجر شُحِذوا من جديد، توضؤوا بالندى عراة السريرة، وصلّوا الأمل جماعة مع العصافير، وجرّوا الشمس من مخدعها بحبال الثقة.. كيف ينظرون إلينا الآن يا ترى؟ أما زالوا بيننا! كيف يرون مواقد وقتنا! كيف يناجون موتنا؟

عرفت أحدهم جيدًا؛ فعرفتهم كلهم جيدًا، كان اسمه رشيد، ثم عادل، ثم… شهيد، عرفته حيًا وما زال حيًا، كما هم جميعهم. ولد شهيدًا، وعاش شهيدًا، ورحل شهيدًا.


جهاد عبيد


المصدر
جيرون