الشك واليقين في رواية “بنات حواء الثلاث”



“كان الجنون يمشي في الشوارع كما يمشي المخدر في الدورة الدموية“، بهذه العبارة تفتتح أليف شافاق وصف حركة الناس والسيارات في شوارع إسطنبول، العاصمة التي تتوزع بين الشرق بطقوسه الروحانية والغرب بماديته العلمانية، ويتنازعها طريقان ينوسان بين الإلحاد والتدين، في روايتها الأخيرة (بنات حواء الثلاث) من إصدار دار الآداب، بيروت عام 2017، وترجمة محمد درويش، لترسم للقارئ شخصية (بيري) التي يتمحور حولها العمل، كانعكاس لصورة العاصمة والبلد الذي يتمزق، بين تيارين متصارعين، من ناحية نشأتها بين أب غير متدين يعاقر الخمرة ويؤمن بالعلم طريقًا وحيدًا لفهم الكون والحياة، وأم متدينة تقضي جل وقتها في طقوس العبادة ومتابعة وصايا الفقهاء، لتتلقف التنظيمات السياسة مريدي هذه التيارات من أبنائهم، ولتدرجهم في برامجها بين اليمين واليسار، مشيرة إلى القمع الذي يطال معارضي الطغمة الحاكمة، وبشكل خاص، عبر اعتقال الابن الأكبر (أوميد) لانتمائه إلى أحد التيارات اليسارية، واستعراض أشكال الاضطهاد والانتهاك الجسدي له، كما كان لانخراط الأخ الآخر في أحزاب قومية متعصبة، تشرذمًا إضافيًا وتصدعًا في كيان الأسرة كصورة مصغرة للمحيط، ولوضع مجتمعات شرقية بأكملها تتصارع فيها هذه الاتجاهات.

مسار الرواية -كما في أغلب روايات أليف شافاق- يتحرك على خطين زمنيين متوازيين ببدايات غير مكتملة، مثيرة حالة من التشويق، فواحد منها يسير في الزمن المعاصر والحالي، والآخر في زمن ماض، يضيء على المؤثرات الفكرية والروحية، التي تضافرت لتكوين وعي وأفكار (بيري)، الشخصية الراوية والمحورية في عملية السرد. والخلاف الفكري بين أبيها وأمها، ساقها إلى اختيار موضوع الرب، في دراستها في جامعة أكسفورد، لتعميق وجهة نظرها، وكحلٍ لتوزعها في متاهة تيارين متناقضين، ونافذة لتجاوز غطرسة العلمانيين، وجهل المتدينين، واعتبار أفكارهم هي الأفضل، وتقبلهم ما يُلقنون به. صراعها بين الدين الخالص والعقل الخالص، كل منهما يشدها ناحيته.

الصورة التي تحتفظ بها بيري في حقيبتها وبين أوراقها الخاصة، هي دراما الرواية كلها، وهي الحكاية التي تقبع في الذاكرة، الأستاذ (آزور) والفتيات الثلاث الكافرة والمؤمنة و(بيري) التي تنوس بين تيارين، وربما حياة أليف شافاق الموزعة بين الشرق والغرب كذلك.

(آزور) الشخصية ذات الكاريزما الساحرة والغامضة، في حواره حول ماهية الرب والتعرف إليه عن طريق المعرفة، معرفة كافة العلوم بعيدًا عن تصورات الأديان التي سيطرت على تفكير العامة، وأحدثت قطعًا معرفيًا مع تساؤلات الفلاسفة حول الكون والوجود والخلق. الأستاذ الذي قذف بفتاة إسطنبول بعيدًا عن الثنائيات المرهقة، الرب والشيطان، الخير والشر، النور والظلام، الخرافة والعقل، وبخاصة مع ما يعتبره مرض العصر، ألا وهو مرض اليقين الذي قاد إلى الغرور والغطرسة التي أوصلت إلى العماء، وصولًا إلى الظلام الدامس الذي استجلب بالضرورة يقينًا أكبر، ومن هنا جاء التسليم بالأديان، ولذلك يعتبر الارتياب هو بداية الطريق إلى المعرفة الحقة، ولا تفيد النيّات الحسنة ولا الحماس للحقيقة، بل إدراك الطريق إليها، مستشهدًا بقول برتراند راسل: إن درجة تحمس المرء تختلف اختلافًا معاكسًا لمعرفة هذا المرء بالحقائق.

مجمل الأفكار المتنوعة لطلابه التي تتوزعها تيارات مختلفة بين النســــــــوية “الفيمينزم” التي تعترض على جنسانية الرب الذكورية، وبين ملحد ومؤمن، ومرتاب بطبيعة الإله وكينونته ما هي إلا أسلوب للسؤال والتساؤل، وقبول الآخر في الوقت ذاته، وجزء من المنهج التدريسي الذي يتبعه.

(آزور) الذي أقر بأن بشريته تحتاج إلى الدين والشك معًا، ومع ذلك يرى الحوار بين الملحدين والمتدينين مجرد عبث، ما لم يتخلى كل طرف عن يقينياته المطلقة، ويدخل في أتون الجدال المنتج أو ما سمي بالطريق الثالث؛ حيث اللايقين نعمة النعم والشك طريق المعرفة وإثارة التحديات العقلية لبلوغ أصول التفكير النقدي غير المتحيز وقبول الآخر. بغض النظر عن انتمائه مرددًا قول الشاعر حافظ الشيرازي:

تعلمت القدر الكبير من الرب

حتى لم يعد بوسعي أن أصف نفسي

بأنني نصراني أو هندوسي أو مسلم أو بوذي أو يهودي

فالحقيقة تشاطرني في الكثير من الأشياء

حتى لم يعد بوسعي أن أصف نفسي

بأنني رجل أو امرأة أو ملاك أو حتى روح خالصة.

لا تخفي شافاق ميلها إلى شخصية منصور، عبر تركيزها على حوار الأب المفتوح وفلسفته حول فهمه للحياة والآخرة والمرأة، بقوله: إذا كان هؤلاء المنافقون سيكونون في الجنة؛ فإني لا أرغب في صحبتهم، كما يرى أن الدين مجحف بحق المرأة والإيمان لا ينصفها كامرأة؛ حيث مكانها في مؤخرة المساجد المخصصة للذكور، بحجابها وجلبابها! بمعنى كائن درجة ثانية بعيدًا عن الشمس والنور: لو كنت امرأة لانتقدت الدين ضعف ما أنتقده، وأنا رجل. ومع ذلك فهو يحب الرب لمسألة واحدة ألا وهي أنه يشبهه في وحدته في هذا العالم.

فنتازيا الحلم أو أحلام اليقظة أخذت شكلها بالطفل الضبابي وبقعته الحمراء، الذي يظهر أوقات الخطر، كنذير أو حاسة سادسة رافقتها منذ الطفولة، إضافة إلى هوسها في إطلاق الحرية للسمك المسجون في الحوض الزجاجي، لارتباطها بحكاية الأسماك التي احتفظت بالشاعر وأوراقه في جوفها وما زالت تبحث عن مزيد من أشلائه، لتعيد الحياة إليه في زمن سرمدي آخر.

لا تنسى شافاق أن تعرج على الوسط المخملي، الطبقة البورجوازية في إسطنبول، طبقة الأثرياء اللصوص، تلك التي لا تعرف من التحرر سوى القشور والعادات الاستهلاكية فقط، من خلال سهرة دعيت إليها (بيري) مع زوجها، متعجبة لوجودها ضمن هذا الجمع الذي يتنافر مع مزاجها وقناعاتها، هي التي لم تأبه لثوبها الممزق والملطخ بين وسطٍ من النساء اللواتي تفاخرن بمقتنياتهن من الثياب والحقائب والأحذية من أفخر الماركات العالمية، هي التي لطالما أضنتها معاناتها من الفراغ الروحي الذي يحيق بها.

مجمل محاور الرواية تُبقي الأسئلة الوجودية مشرعة على فضاءات واسعة، هل هي النمط البديل للتطرف، أو هي نموذج الحيرة التي لا تهدأ، أم هي حالة مصالحة بين تيارين لا يلتقيان، أم هي صرخة لتحديد الهوية والانتماء، في هذا العالم المتغير، أسئلة ما زالت حية ومستمرة.


دعد ديب


المصدر
جيرون