فزغلياد: عام 1917 جعل القرن العشرين قرنًا روسيًا



فزغلياد: عام 1917 جعل القرن العشرين قرنًا روسيًا

الصورة: ك.ك. كوبش/ متحف الأرميتاج К. К. Кубеш/hermitagemuseum.org

ها قد مرت الذكرى المئوية لثورة أكتوبر 1917. انقلابان، في عامٍ واحد، غيّرا روسيا والعالم؛ كان للأحداث الأهم في تاريخ القرن العشرين أسبابٌ داخلية وخارجية، وسيبقى تأثيرها على البشرية مدة طويلة جدًا. فما هي النتائج التي خلّفها عام 1917 في روسيا؛ إذا نظرنا إليها من خلال مئة عام؟

تدخل أحداث عام 1917 في عداد أهم أحداث ألفية التاريخ الروسي، إلى جانب اعتناق روسيا الديانة المسيحية، إقامة مملكة واحدة زمن إيفان الثالث، استعادة السلطة الوطنية بعد اضطرابات القرن السابع عشر، الانقسام الكنسي وإقامة الإمبراطورية الروسية على يد بطرس الأول. بعد عام 1917، وقع حدثان فاصلان: الانتصار في الحرب الوطنية العظمى التي هددت بإزالة الدولة الروسية، وانهيار الاتحاد السوفيتي.

غير أن الحدث الثاني لم ينته بعد، ويمكن أن يتحول إلى استعادة وحدة العالم الروسي؛ مرّ عام 1917، مخلفًا وراءه أثرًا هائلًا، ليس في روسيا وحسب، بل في البشرية كلها. لا يلغي سقوط الشيوعية في روسيا لا حقيقةَ وجودها نفسه ولا تأثيره على الحضارة البشرية، من الصينية إلى الغربية. كان القرن العشرين قرنًا روسيًا، حتى تحت مسمى الشيوعية.

في الوقت نفسه، في بداية الأمر جاءت التجربة الشيوعية في روسيا، كغيرها من صرعات الموضة الغربية المفروضة من أعلى، كتحويل روسيا إلى النموذج الأوروبي، وقت بطرس الأول أو “الديمقراطية والسوق” في التسعينيات، ولكن -كجميع التجارب- خضعت بسرعة للتطبيع روسيًا. فماذا أعطت التجربة الشيوعية روسيا، وماذا تعلمنا منها؟

بدايةً، ما حصل للنظام الشيوعي من تحول: (روسنة)، وحتى من انهيار، يثبت أنّ مع كل قطعه الجذري في البداية مع العصر الذي سبقه، أصبح في ما بعد جزءًا من التاريخ الروسي. فليس هناك دولةٌ منعزلةً بذاتها، وبالتالي ليس هناك من تاريخ منفصل لفترة 1917- 1991. وأولئك الذي يحاولون إضفاء هذا المخطط للمجتمع، سواء أرادوا أم لم يريدوه، فإنهم يعملون ضد مصالح الشعب الروسي؛ ذلك أن ما جرى عام 1917 كان في الوقت عينه مأساةً كبرى لشعبنا، وبداية صفحةٍ جديدة في تاريخه. فإعادة ولادة النُخب دمّرت البلاد نهاية الثمانينيات، كما دمرت روسيا في عام 1917. وهذا هو الدرس الرئيسي من دروس 1917.

جاء لينين والبلاشفة على أرضيةٍ مهيأة، فما كانت الثورة “الاشتراكية” لتقع في روسيا؛ لو لم تكن هناك نُخبةٌ غربية الهوى، غير مؤمنةٍ بشعبها، بل تحتقره ولا تعرفه جيدًا، انفصلت عن الواقع حالمةً بأنه “من الأفضل أنْ نعيش كجميع الشعوب المتحضرة”.

اعتبر جزءٌ كبير من الطبقة المثقفة نفسه جديرًا بحكم البلاد، بدلًا من “البيروقراطية الآسيوية” أو “القيصر”. باتحادهم مع جزءٍ من العائلة الإمبراطورية، ومع “الدوائر الطليعية” من طبقة الضباط ورأس المال الكبير، قام “أفضل الناس” في أثناء الحرب الأهلية بحملةٍ وقحةٍ غير مسبوقة؛ لتشويه السلطات العليا، وبالنتيجة انتزعوا السلطة من القيصر الذي عروه. بعد شباط، أصبحت الكارثة حتميةً، وكانت المسألة تتعلق فقط بأشكالها ومداها.

نحن لا نعرف بالضبط، إن كان سيناريو انتصار البلاشفة هو الأكثر دمويةً أم لا؛ فانهيار البلاد والحرب البينية ستتسبب -في أي حال- بأعدادٍ كبيرة من الضحايا. غير أن البلاشفة لم يستولوا على السلطة ببساطة، هم أخذوها في بلدٍ ينهار، ركزوها بيدهم، وبدؤوا تجربةً اجتماعية لم يشهدها العالم من قبل: بناء مجتمعٍ من نوعٍ جديد، يكرس المُثل التي تفتق عنها الفكر الأوروبي في القرون السابقة. كان من الواضح أن ما يتم تشييده هو بناءٌ لا وطني؛ فروسيا كانت تعدّ قاعدة انطلاق الثورة العالمية، فلم تكن الشيوعية تأخذ بالحسبان وجودَ شعبٍ أو قومية في المستقبل.

ومع ذلك، تغلبت روسيا على “روسيا فوبيا” البلاشفة. وبالتدريج، بدؤوا التحول في الاتجاه القومي، ليضعوا القومية فوق الأممية. بالرغم من أهوال الحرب الأهلية، وهجرة الملايين، وخسارة جزءٍ من الأراضي، والابتعاد النشط عن الصبغة الروسية في العقدين الأولين؛ تمكن الشعب الروسي من هضم البلشفية. فالكيان الذي خرج به الاتحاد السوفيتي من الحرب الوطنية العظمى، كان كيانًا روسيًا، على الرغم من كل التصحيحات باتجاه الطبقية، محاربة الأرثوذكسية، الماركسية- اللينينية وسواها.

أما أن يصل النظام، في نهاية السبعينيات، إلى مرحلة الأزمة، وألا يتمكن في الثمانينيات من القيام بالإصلاحات وأنه فُتل في النهاية، فإن ذلك كان مرتبطًا بتاريخنا وبخواصنا الذاتية. لم تكتمل عملية “روسنة” البلشفية بشكلٍ كاملٍ، وإلا؛ لم يكن النظام لينهار عام 1991، ولكن البلشفية أظهرت تمامًا جوانبها التي قربتها من رؤية المجتمع الروسي.

هذه الرؤية لا تقبل لا عبادة الفرد، ولا عدم المساواة الاجتماعية، ولا مقولة “نحن على دين صاحب السلطة”. الرؤية التي تضع تعاضد الأخوة المتبادل، والعمل الصادق والقضايا العامة فوق كل اعتبار. ولهذا بالضبط، ومع انهيار القرية الروسية، الحامل السابق للصبغة القومية، فإن قاطني المدن السوفيتية حملوا معهم هذه الصفات، ولهذا بالتحديد، شكلت أحداث سنوات التسعينيات صدمةً كبيرةً لدى المواطنين الروس؛ وجاءت الصدمة على خلفية الوعود التي قطعوها للشعب بـ “تحسين الاشتراكية” التي جاء بدلًا عنها، ويلات السوق المتوحش، لتنصب على رؤوس الناس، مترافقًا مع تفتت البلاد وظهور اللصوصية المتغولة والإساءة لتاريخ البلاد. الأمر المختلف عن عام 1917، فقد تعرضت البلاد للخيانة من قبله على ذلك، أصبح “الغباء الخبيث” الذي أبداه غورباتشوف بالذات أحد أهم الأسباب التي أدت إلى وقوع المأساة. ترك غورباتشوف، ومن بعده بوريس يلتسين، انطباعًا مرعبًا، وكأن كيرينسكي(1) نفسه قد عاد إلى السلطة، وأن تاريخ البلاد يدور مرةً ثانية حول الجحيم، ومرةً أُخرى تحت شعار “الوحدة مع الديمقراطية الغربية”.

من دون البلاشفة؛ ما كانت روسيا لتكون أكثر سعادةً. ومن دواعي فخر النُخبة السوفيتية، أن قياداتها العليا (كمن سبقهم من القياصرة) لم يخونوا مُثلَهم العليا، ولا بلادهم. أما الخرافات حول أن “اللوائح السوفيتية قررت نقل السلطة إلى ملكية خاصة”، اخترعها أولئك المنحطون، الذين لم يكن لديهم، في واقع الأمر، أي قيمٍ أخلاقية من لوائح الدرجة الثالثة (الحلقة الوسطى في منظمة الكومسمول/ الشبيبة الشيوعية)، والذين (هرعوا إلى المطارات) هاربين. ولكن أنصار “خودوروفسكي”(2)، كانوا أقليةً؛ فقد مات القسم الأكبر من كوادر الحزب الشيوعي السوفيتي، من الفترة الأخيرة، من دون فلسٍ واحدٍ في جيوبهم. وبالمناسبة، حصل الأمر نفسه لبعض وزراء الحكم القيصري الذين فروا خوفًا من القتل إلى خارج البلاد، حيث عاشوا ظروف حياةٍ بائسة.

مع كل ذلك، روسيا التي تخلت عن ثورة 1917 في فترة العهد ما بعد السوفيتي، ظلّت “البلاد التي كانت فيها الاشتراكية” أي أنها بقيت الدولة التي لا تشبه غيرها من الدول. فروسيا تبقى فريدةً، ولكن التجربة السوفيتية جعلت تفردها أكثر جديةً.

كانت تجربة عام 1917 (قبل الثورة البلشفية- المترجم) عبارةً عن خيانة النُخب، تقليد الغرب والارتباط به أيديولوجيًا، مؤامرات واستفزازات، ولكنها، تجربةٌ لا تقدر بثمن؛ كونها كانت ترياقًا ضد اضطراباتٍ جديدة.

الأمر نفسه ينطبق على تجربة الأيام السوفيتية، فقد كانت هي الأخرى تجربةً لا تقدر بثمن، وكانت أفضل لقاحٍ ضد محاولات فرض بنيةٍ اجتماعية غريبة على روسيا، مهما كانت التسميات التي تطلق على هذه البنية؛ فإن روسيا لا تستطيع بعد الحقبة السوفيتية أن تكون “اقتصادًا مخططًا مغلقًا، من دون ملكية خاصة، ولكن مع تقديس لينين”، كما أنها لا تستطيع أن تكون أيضًا” اقتصادًا من اقتصاديات السوق، مفتوحًا على العالم مع قيمٍ ديمقراطيةٍ متسامحة”، لأن هذا كائنٌ خرافي أكثر خطورة من “الشيوعية العلمية”.

خلال مئة عام، مرت بعد 1917، عاشت روسيا منعطفين أساسيين من تاريخها. وبالحد الأدنى فهمنا أن علينا العيش بعقولنا نحن، من دون تقليد ولهاثٍ خلف الغرب، ومن دون حسدٍ له. إن الخلاص من المركزية الأوروبية يمثل أفضل ضمانة لنا، بأننا لن نكرر أخطاء عام 1917 و1991؛ لأننا سنستمر بالنظر أمامنا، وليس الالتفات إلى الجوانب، ونحن نشق طريقنا إلى المستقبل.

(1) كيرينسكي: سياسي روسي، لعب دورًا مدمرًا عام 1917. شارك بقوة في ثورة شباط 1917، أصبح رئيس الحكومة القيصرية المؤقتة بمشاركة حزب (إسيير). سقطت حكومته في ثورة أكتوبر 1917 وتمكن من الهروب متخفيًا. تحالف مع كراسنوف وزحفا على سانت بيتربورغ ولكن الهجوم فشل، ثم هاجر لاحقًا خارج البلاد.

(2) خودوروفسكي: سياسي روسي معارض لبوتين. زعيم حزب (روسيا المفتوحة). شغل مناصب عدة، كان آخرها منصب رئيس شركة (يوكس) للنفط. اعتقل عام 2003 بتهمة الاحتيال؛ وحكم عليهم بالسجن مدة 9 سنواتٍ. وقيل إن ملاحقته كانت لأسباب سياسية ضد خصوم بوتين. قدرت فوربس ثروته بـ 8 مليار دولار.

 

اسم المقالة الأصلية 1917-й сделал XX век русским веком كاتب المقالة بيتر أكوبوف مكان وتاريخ النشر فزغلياد. 8 تشرين ثان 2017 رابط المقالة https://vz.ru/politics/2017/11/8/894205.html

ترجمة سمير رمان


سمير رمان


المصدر
جيرون