“من أسكت الصافرة”.. الخط الحديدي الحجازي



كلما دخلت محطة قطارات في ألمانيا؛ أخذت أتأمل منبهرًا حيويةَ البشر، وحركتهم، وبالتالي مدى أهمية شبكة الخطوط الحديدية التي تربط ألمانيا من أقصاها إلى أقصاها، وتربطها مع محيطها الأوروبي، بإيقاع منضبط في سرعته وتوقيته… ثم أذهب في تداعياتي إلى بلادنا الحزينة؛ وأتساءل: ما الذي كان ينقص سورية، أو يمنعها من تطوير وتفعيل شبكة خطوط حديدية، تنهض باقتصادها، وتربطها بأوروبا من جهة، ومحيطها العربي من جهة أخرى!

يفتح السؤال السابق البابَ، على أسئلة أخرى أكثر تعقيدًا، لا تتعلّق بالفساد والتخلف، وبالرأسمال الطفيلي الذي يتطلع إلى الربح السريع فحسب، بل بتعقيدات جيوسياسية، وغياب إرادة سياسية تخطط لمشاريع استراتيجية. وأكثر من ذلك، أن النظام السوري، والأنظمة العربية المجاورة لم تهتم أساسًا، ولم تعمل على استثمار وتطوير ما لديها، بل عملت على دفنه، وأقصد هنا الخط الحديدي الحجازي الذي تجاوز عمره الآن أكثر من مئة عام.

قادتني تداعياتي إلى العام 2008، حيث اشتغلت على إعداد “وثائقي” بعنوان: (من أسكت الصافرة!) مع المخرج قيس الزبيدي، والمنتج ماهر جاموس، بمناسبة مرور مئة عام على تسيير أول رحلة للخط الحديدي الحجازي عام 1908، بين دمشق والمدينة المنورة.

أهم استنتاج خرجت به -بعد البحث والشغل على هذا الموضوع- أن تعطيل الخط الحديدي الحجازي، ثم موته، كثّف خلال مئة عام حجمَ التمزقات، والخلافات العربية–العربية، وحجم الصراع الدولي، والإقليمي على تقاسم النفوذ والسيطرة على المنطقة؛ وبالتالي العمل على ضرب أي مشروع حيوي، كالخط الحديدي الحجازي، وعرقلة أي محاولة لإعادة إحيائه، على الرغم من عقد مؤتمرات وتشكيل لجان، لا تُعد ولا تُحصى، خرجت بقرارات وتوصيات لم ينفذ منها أي شيء على مدار عقود، ثم أصبحت طي النسيان.

بداية الحكاية:

في أثناء العمل على فتح قناة السويس عام 1864، وُلدت فكرة إنشاء الخط الحديدي الحجازي، باقتراح من مهندس أميركي من أصل ألماني، يربط بين دمشق وساحل البحر الأحمر. أُعيد طرح المشروع في “الآستانة” مجددًا عام 1880 مع بعض التعديلات، تقضي بمدّه من دمشق إلى الأراضي المقدسة.

تمّ إحياء الفكرة عام 1900، بطرحها على السلطان عبد الحميد، وتنفيذ المشروع، لربط دمشق (مركز تجمّع الحجيج من الديار الإسلامية) بالأراضي المقدسة. وتحمسّ السلطان عبد الحميد للفكرة، مركزًّا على مسألة سهولة نقل الحجيج، غير أن الأهداف (العسكرية والسياسية)، لم تكن أقلّ أهميةً من الأهداف الدينية؛ إذ كان من مصلحة “الباب العالي” ربط الولايات العربية، بشبكة خطوط حديدية، لكي يسهل السيطرة عليها، وتأمين الدعم اللوجيستي للحاميات العسكرية العثمانية.

واجه تنفيذ المشروع صعوبات وعوائق كثيرة، لأنه يمتد في الصحراء بطول 1320 كم، وكان من الصعب نقل المواد والتجهيزات، وتأمين اليد العاملة، لذلك أصدر “الباب العالي” قرارًا بتشغيل الجنود في إنجاز الخط، وكان من المقرر أن يصل إلى مكة المكرمة، ومنها إلى عدن في اليمن جنوب البحر الأحمر.

أنجِز الخط بعد ثماني سنوات، وتمّ افتتاحه رسميًا عام 1908، حيث استغرقت أول رحلة، بين دمشق والمدينة المنورة 55 ساعة، بينما كانت تستغرق أربعين يومًا، واستمرّ بتسيير رحلاته، ما يقارب تسع سنوات، بالرغم من خلع السلطان عبد الحميد، بعد سنة من تدشينه.

ظهرت الأهمية الاستراتيجية للخط، إبّان الحرب العالمية الأولى، حيث كان عاملًا مهمًا في ثبات الجيوش العثمانية في جنوبي فلسطين، أمام القوات البريطانية مدة سنتين. كذلك فشلت قوات الشريف حسين في السيطرة على حامية “المدينة المنورة”، بسبب وصول الإمدادات إليها عبر الخط الحديدي الحجازي؛ ما دفع ضابط الاستخبارات البريطانية “لورنس” إلى اقتراح نسف وتخريب جسوره، ونزع قضبانه في عدة أماكن، لشلّ حركته.

تقاسم النفوذ:

تقاسمت القوى الاستعمارية المنتصرة في الحرب العالمية الأولى: (بريطانيا وفرنسا) النفوذَ على المنطقة، حيث فُرض -حسب اتفاق سايكس بيكو- الانتداب الفرنسي على سورية ولبنان، والانتداب البريطاني على فلسطين والعراق، وتبخرّ حلم الشريف حسين، بقيام الدولة العربية، ومُنح نجله الأمير عبد الله جائزةَ ترضية، بقيام “إمارة شرق الأردن”، واستطاع آل سعود السيطرة على نجد والحجاز، وإعلان تأسيس “المملكة العربية السعودية”، بمساعدة بريطانيا، والولايات المتحدة التي كانت تتطلع إلى الهيمنة على بحر النفط الذي تعوم المملكة الناشئة فوقه.

انعكست تلك المتغيرات على الخط الحديدي الحجازي، الذي توقف عن تسيير رحلاته، وتقرر تقسيم ملكيته في مؤتمر إسطنبول، الذي انعقد عام 1924، بصورة نهائية، واعتبار كل قسم ملكًا للمناطق التي يمرّ بها. وأيدت عصبة الأمم ذلك التقسيم الذي صاغ بنوده القانونية السويسري “أوجين بورل” عام 1925.

توقف الخط عن نقل الحجيج إلى المدينة المنورة، لكنه استمر في نقل البضائع والركاب، بين دمشق وعمان وحيفا (عبر تفريعة تصل بين وادي اليرموك وحيفا)، وفي مواسم الحج، كان ينقل الحجيج من دمشق إلى ميناء العقبة، ومن هناك يستكملون رحلتهم عبر البحر الأحمر. كان الخط الحديدي الحجازي، كالنهر الجاري، يأتي بالحياة، ويلقي بظلال الحضارة، أينما حلّ. لكن التجاذبات الإقليمية والدولية لم تكف عن استهدافه، حيث نسفت العصابات الصهيونية، في 17 حزيران/ يونيو 1946، جسرَ الحمة، وسبق أن استهدفت محطة حيفا بالمتفجرات، وفي عام 1957، نسفت “إسرائيل” جسر خط اليرموك في أثناء العدوان الثلاثي، وفي عام النكسة 1967 قطعت “إسرائيل” خط درعا– الحمة ثانيةً.

تعددت محاولات إعادة تشغيل الخط، بدعوة من الجامعة العربية إلى مؤتمرٍ في صوفر بلبنان عام 1946، لتدارس أوضاعه، وإعادة تأهيله، وتسييره، لكن المؤتمر لم يصل إلى اتفاق بين الدول المعنية. عُقد مؤتمر آخر في الرياض عام 1955 جمع الدول الثلاث: سورية والأردن والسعودية، وتمخض عن صدور مرسوم بتشكيل هيئة عامة للخط الحديدي الحجازي، من وزراء المواصلات في الدول الثلاث، وتشكلت لجان للمتابعة، وعُقدت اجتماعات… إلّا أن كل القرارات، والتوصيات لم تنفذ على أرض الواقع.

السؤال: أين القطبة المخفية التي منعت وضع مشروع قائم، يعود بالفائدة على شعوب ودول المنطقة، قيد التشغيل؟!

أعتقد أن التناحر السياسي بين الأنظمة العربية المعنية بالخط، وعدم ثقتها ببعضها، والتوجس الأمني بينها من جهة، وبينها وبين شعوبها من جهة أخرى، حالَ -للأسف- دون استثمار الخط وتطويره، على الرغم من أن السكك الحديدية هي الأقل كلفة، والأكثر أمانًا، بين وسائل المواصلات، في نقل البضائع والركاب. لقد صرفت تلك الدول -وبخاصة السعودية- أموالًا طائلة على الخطوط الجوية، وبناء الطرق السريعة، في حين أهملت مشروعًا قائمًا، كان من الممكن أن يربط ببساطة أوروبا بالمشرق العربي، ودول الخليج، ويعود بالمنفعة والازدهار الاقتصادي والاجتماعي على كل دول وشعوب المنطقة. لا شك أن نشوء “إسرائيل” قد مزقّ أوصال المنطقة، وكان عاملًا أساسيًا أيضًا في إجهاض المشروع، وموته. لكن الأهم هو غياب الإرادة السياسية لدول المنطقة، تلك الإدارة المشغولة، أكثر من أي شيء آخر، بالحفاظ على سلطة أنظمتها، ولو على حساب مشاريع حيوية، تخدم ازدهار شعوبها!


علي الكردي


المصدر
جيرون