موسكو تقود العالم إلى الخراب
19 تشرين الثاني (نوفمبر - نونبر)، 2017
على الرغم من التفاهم الكبير، بين قطبَي السياسة العالمية: واشنطن وموسكو، في الكثير من القضايا العالقة في المنطقة، وفي مقدمتها “المسألة السورية”، وإن ظهرا على العلن مختلفين، إلا أننا لا نستطيع المقارنة بينهما واعتبارهما وجهين لعملة واحدة؛ فروسيا الاتحادية وريثة الاتحاد السوفييتي تمثل صنفًا متطرفًا من صنوف المروق السياسي، لا بسبب تدخلها العسكري والسياسي المباشر في الملف السوري، وهو ما يهمّنا على وجه الخصوص، ولكن لأنها تحاول لعب دور أكبر من حجمها بكثير، وحتى إن بدت قوية متماسكة فإن جميع معطياتها، بما فيها العسكرية، لا تتناسب مع الأدوار التي تحاول لعبها، كما يمثل الرئيس الروسي فلاديمير بوتين صنفًا من الديكتاتوريات المتخلفة، وهو يشبه إلى حد بعيد ديكتاتوريي عالمنا الثالث، ومنطقتنا العربية على وجه الخصوص، بدءًا من طريقة وصوله إلى السلطة أول مرة، عبر صفقة مشبوهة عقدها مع الرئيس الروسي الأسبق بوريس يلتسين، وتورطه لاحقًا بقضايا فساد وغسيل أموال، لذلك فلم يكن مستغربًا فيما بعد ممارسته القمع والاغتيال لخصومه السياسيين علانية في بلاده، كما حدث للمعارض البارز بوريس نيمتسوف، كما لن يكون مستغربًا -في حال من الأحوال- أن يدافع بشراسة عن ديكتاتور صغير بحجم بشار الأسد، أو أن يتحالف مع أكثر الأنظمة العالمية استبدادًا وتطرفًا دينيًا وسياسيًا، سواء في كوريا الشمالية أم في إيران.
هذه الخلطة الروسية العجيبة تجعلنا نستبعد أي توقع في أن موسكو قد تكون جادة في الوصول إلى حل “سلمي”، في ما يتعلق بالمسألة السورية، فهي أصلًا لا تضم في أبجدياتها السياسية أي فكرة عن الحرية أو الديمقراطية، أو حتى حقوق الإنسان أو الحيوان، ولا تمثل تصريحات مسؤوليها الكبار، عن حرصها على الوصول إلى “حل سلمي”، سوى خدعة لغوية، فموسكو تسعى -على العكس مما تقول- لإطالة أمد الصراع، من خلال زيادة الدعم لنظام دمشق؛ لأن هذا الصراع بكل تعقيداته استطاع تحويلها إلى لاعب رئيس في منطقةٍ، أقصِيَت عنها عقودًا طويلة، بسبب الهيمنة الأميركية عليها، وحتى في الحقبة السوفيتية، فإن وجود موسكو لم يكن يمنحها ثقلًا شبيهًا بما منحها إياه تدخلها الحالي، طبعًا دون أن ننسى أن وجود إدارة أميركية مترددة مثل إدارة الرئيس السابق باراك أوباما، ثم إدارة أميركية عبثية في قراراتها ومواقفها واستراتيجيتها كإدارة ترامب الحالية، كل ذلك منح موسكو دفعًا إضافيًا، بل إن إدارة ترامب تواجه مشكلة داخلية حقيقية، بسبب التدخل الروسي في الانتخابات الرئاسية الأميركية، وقد يكون الرئيس ترامب مُهددًا بأكثر مما وصلت إليه الأمور، إذا تكشفت حقائق جديدة عن تواطؤ وتدخل روسي مباشر، قد يكون هو من أوصله إلى سدة الرئاسة.
لم يقتصر عمل موسكو على “تحييد” الدور الأميركي، ظاهريًا على الأقل، لكنه امتد ليشمل الأمم المتحدة ومجلس الأمن، من خلال سعيها الدؤوب لإفشال مساعي التوصل إلى اتفاق سلام أو حتى إطلاق عملية مفاوضات فعلية وجادة بإشراف المنظمة الدولية، والالتفاف على سلسلة مؤتمرات جنيف، من خلال عقد مؤتمرات بديلة “أستانا بمراحله المتعددة”، وصولًا إلى التخطيط والتفكير بمؤتمر “سوتشي”، وكل هذا يتم بعيدًا عن أعين المنظمة الدولية التي وإن شارك مبعوثها الأممي في تلك المؤتمرات الروسية إلا أنه يشارك بوصفه ضيفًا لا أكثر ولا أقل، حتى وإن أدلى بتصريحات وعقَد مؤتمرات صحفية، وأما في مجلس الأمن فالحكاية باتت معروفة للجميع، وآخرها ما حدث قبل أيام، فالفيتو الروسي جعل مجلس الأمن الدولي عبارة عن حبر على ورق لا قيمة له، وقد أبدت العديد من دول العالم تبرمها من 11 فيتو روسيًا، استخدم حتى اليوم، واعتبرته مؤشرًا خطيرًا على أن المجلس الدولي لم يعد أكثر من مكان للاجتماع، دون أن يكون لقراراته وتوصياته أي معنى.
كل هذه المعلومات التي أوردناها في هذه المقدمة معروفة لدى الجميع، ولم تعد خفية على أحد، لكن ما لا يمكن فهمه ولا تفسيره هو ذلك التهافت لدى بعض الأطراف السورية “المحسوبة على الثورة”، على كسب ود موسكو، والنظر إليها بوصفها “ضامنًا” أولًا، ثم “راسمًا لخريطة السلام” السورية ثانيًا، بدل التعامل معها على أنها قوة احتلال، ومن ثم الضغط دوليًا، إن أمكن، لإرغام موسكو على الاعتراف بنفسها قوة احتلال، وبالتالي فإن التعامل معها يتم وفق رؤية مختلفة لا لبس فيها، كما هو حاصل حاليًا، وعدم الانجرار وراءها طواعية إلى المقصلة التي تقوم بتجهيزها لقطع رأس الثورة، أو ما تبقى منها، وعليه فإن أي مؤتمر أو اجتماع أو اتفاق تقوم موسكو برعايته هو اتفاق لا يمكن -بأي حال من الأحوال- أن يصب في مصلحة “شعب” تحتل أرضه، لكنه بالضرورة سوف يصب في مصلحة من سهّل لها ذلك الاحتلال، ومن استدعاه مستجيرًا بها، لكي يبقى جالسًا على كرسيه الذي ورثه عن أبيه.
ثائر الزعزوع
[sociallocker]
جيرون