ظاهرة عمل الأطفال في غازي عنتاب –أجساد صغيرة وهموم جسام  



أطفال سوريون تُسرق طفولتهم، في غياب الرقابة والحماية، إذ أصبح مألوفًا أن تشاهد أطفالًا سوريين يعملون، في كل مكانٍ من مدينة غازي عنتاب التركية؛ تجدهم يبيعون المناديل الورقية وزجاجات المياه على قارعة الطرقات، وتراهم يبحثون في حاويات القمامة عن مواد بلاستيكية. ويعملون في محلات البقالة وورشات الخياطة، وفي المعامل والمطاعم، فقد فرض واقع اللجوء عليهم خيارات مرة، مع غياب البدائل.

حذرت منظمتا (يونيسف) للطفولة و(سيف ذي تشيلدرن)، في تقرير صادر في 2015، من أن “النزاع والأزمة الإنسانية في سورية يدفعان بأعداد متزايدة من الأطفال، إلى الوقوع فريسة الاستغلال في سوق العمل، وأن معدلات عمل الأطفال وصلت إلى مستويات خطرة”.

يقول سليم  عبد الغني، وهو مدير مركزٍ لتأهيل الأطفال السوريين في مدينة غازي عنتاب، لـ (جيرون): إن ظاهرة عمل الأطفال في تركيا تختلف عن ظاهرة عمل الأطفال في سورية، سابقًا. هنا يرتبط نشوؤها بظروف الحرب والنزوح، وما نتج عنها من واقع اجتماعي واقتصادي، حيث حُرمت أغلب العائلات السورية من مواردها المادية، ومن شبكات الدعم الاجتماعي.

يعيش أغلب السوريين تحت خط الفقر، في المناطق الشعبية من مدينة غازي عنتاب، نظرًا إلى انخفاض إيجارات السكن وقربها من أماكن العمل، مثل منطقة “تشارشي” والمنطقة الصناعية و”دوز تبه” و”ساجقلي” وغيرها، حيث تتواجد مختلف المهن كالحلاقة وتصليح السيارات، كما تنتشر ورشات الخياطة في حي تشارشي، أما المعامل الكبيرة والحرف الصناعية، فتتركز في المنطقة الصناعية للمدينة.

أجورهم قليلة وإدارتهم سهلة

على الرغم من أن القانون التركي يمنع تشغيل الأطفال دون الخامسة عشر، إلا أن الكثيرين يغضون الطرف عن هذا الأمر، طمعًا بعمالة رخيصة يستطيع من خلالها أصحاب العمل تخفيض كلفة الإنتاج، فضلًا عن إمكانية التحكم بالأطفال بيسر، وفرض شروط العمل دون معارضة تُذكر.

يعمل الأطفال في المهن المرتبطة بصناعة الملابس، مثل (الأزرار والعُرى، وعلى ماكينات “السترس” الحراري، وطابعات القماش)، في أوضاع صحية سيئة، وأغلب عمل الأطفال يكون على شكل عامل مساعد (حويص) للعاملين على ماكينات الخياطة؛ لذا نجد في ورشة تضم عشرة عمال -على سبيل المثال- ما بين خمسة إلى عشرة أطفال. ويعمل الأطفال ساعات طويلة تتجاوز عشر ساعات يوميًا، مقابل أجر زهيد، وتراوح الأجور الأسبوعية ما بين 40 إلى 80 ليرة تركية، وذلك تبعًا لعمر الطفل وخبرته، ويتنوع أصحاب العمل، بين أتراك وسوريين، وتتسم معاملة أصحاب الورشات الأتراك والسوريين خاصة بالقسوة، وتخلو في كثير من الأحيان من الإنسانية، حيث يتعرض الأطفال للضرب، وقد روى الطفل عمار (14 عامًا) لـ (جيرون) أن طفلًا بعمر 7 سنوات تعرض لعقوبة “الفلقة”، لأنه يلعب ولا يقوم بتنظيف المكان. كل ذلك في ظل غياب الرقابة على الورشات وأماكن عمل الأطفال، فعندما يحضر موظفو البلدية للتفتيش، يقوم أصحاب الورشات بإغلاق الورشات أو صرف العمال إلى منازلهم.

تتنوع أسباب عمل الأطفال السوريين؛ فالفقر وغياب المعيل، بسبب الاستشهاد أو الاعتقال، من أهم الأسباب التي دفعت العائلات إلى زجّ أبنائها في سوق العمل، كما أن هناك الكثير من الأطفال يعملون، في انتظار لمّ الشمل؛ تعمل سارة (اسم مستعار) ذات الاثني عشر ربيعًا، في إحدى ورشات الخياطة، منذ كانت في التاسعة، وهناك مؤشرات على تعرضها للتحرش الجنسي، وتقول أمها إنها لا تستطيع الامتناع عن إرسالها للعمل؛ لأنها وأخاها حمود (14 عام) المعيلان الوحيدان للأسرة.

في المقابل، يعيش (حسن) البالغ من العمر(13 عامًا) مع عائلته الكبيرة، في منطقة بجوار قلعة عنتاب، وهي من أفقر الأحياء في المدينة، حيث يعمل في محل للبزورية، في سوق تشارشي، مدة 10 ساعات يوميًا، وعلى الرغم من رغبة حسن الشديدة في العودة إلى التعلّم، لكن سلطة الأب حرمته من تحقيق حلمه، فالثقافة المجتمعية التي تتسامح مع عمل الأطفال تلعب دورها في تنامي هذه الظاهرة، وقد أخبرت إحدى الناشطات في مجال حماية الأطفال (جيرون) أنها عرضت تقديم كفالة مادية لعائلة حسن، مقابل أن يعود إلى المدرسة؛ لكن والده رفض معللًا ذلك بأن حسن (يعمل ليصمّد “يدخر” لمستقبله).

يسهم التفكك الأسري في دفع الأطفال باكرًا إلى سوق العمل؛ وعائلة (ضحى) مثال على ذلك؛ فالأب غائب معظم الوقت، متخليًا عن مسؤوليته تجاه عائلته المكونة من أربعة أطفال، إضافة إلى أمهم (ضحى 14- عبد الرحمن 13 – محمود 10 – أحمد 9 سنوات)؛ الأمر الذي اضطر ضحى وعبد الرحمن إلى أن يعملا في ورشات الخياطة، والمفارقة المؤلمة أن والدة ضحى تتحدث عن تقدم شاب لخطبة ابنتها، لكن واقع الفقر لا يسمح لها بالاستغناء عن عملها، فما يحصله عبد الرحمن لا يكفي لتسديد أجور السكن وفواتير الكهرباء والماء، فضلًا عن الغذاء.

محمد وأحمد، وهما طفلان يتيمان، أصبحت عملية جمع المواد من القمامة مهنةً بالنسبة إليهما، فبعد مقتل والدهما في حلب؛ أحضرتهما الجدة إلى تركيا، وتقطن العائلة في “خرابة”، هجرها أصحابها الأتراك.

يعمل الأطفال السوريون أيضًا في قطاعات الزراعة الموسمية، فهناك العشرات من العائلات السورية التي تعمل في قطاف الفواكه والخضار، ويعمل الأطفال في ظروف صعبة، من شمس حارقة وخطر التعرض للمبيدات الحشرية.

وفقًا لاتفاقية (منظمة العمل الدولية) يمكن تصنيف عمل الأطفال السوريين، ضمن أسوأ أشكال عمالة الأطفال، حيث تنص الاتفاقية على أن أسوأ أشكال عمالة الأطفال هو: أيّ عمل يضر بصحتهم أو سلامتهم أو أخلاقهم ويحرمهم من التعليم. وتنسحب أضرار ظاهرة عمل الأطفال على المجتمع برمته؛ لأنها تعيد إنتاج الفقر، وتحد من التنمية في المستقبل. ويترك عمل الأطفال في سن مبكرة تأثيرات سلبية على نموهم الجسدي والنفسي والاجتماعي:

– يتضرر النمو الجسدي للأطفال، نتيجة التواجد في أماكن عمل، لا يتوافر فيها الحد الأدنى من الشروط الصحية، إضافة إلى احتمال تعرضهم لإصابات العمل.

– إن تعرض الأطفال لسوء المعاملة والاستغلال في العمل يضر بصحتهم النفسية، ويزيد نزعة العنف والعدوانية، ويرفع معدلات الانحراف والجنوح، نظرًا إلى تعرض بعض الأطفال للتحرش والاعتداء الجنسي، في غياب الحماية والرقابة.

– ولعل من أهم العواقب السلبية لعمل الأطفال، الحرمان من التعليم، ومن فرص التطور المهني لبناء مستقبل جيد.

كيف نواجه عمالة الأطفال ونحد من آثارها

ينبغي العمل على برامج دعم اقتصادي للاجئين، وخصوصًا الفئات الفقيرة والمهمشة، على أن يترافق ذلك بحملات توعية بمضار تشغيل الأطفال، يشارك فيها الفاعليات المحلية لمجتمع اللاجئين.

وعلى الرغم من الجهود التي تبذلها السلطات التركية، ما زالت أعداد كبيرة من الأطفال السوريين خارج دائرة التعليم؛ لذا لا بد من إنشاء مراكز لتعليم الأطفال المتسربين، بدلًا من تركهم فريسة للاستغلال في سوق العمل، وإعادة تأهيلهم لدمجهم في المجتمع، وهذا يتطلب تحركات عاجلة، لأن الانتظار يعني ضياع مستقبل هؤلاء الأطفال.


كبرياء الساعور


المصدر
جيرون