عن استقلال السياسة وواقعيتها
20 تشرين الثاني (نوفمبر - نونبر)، 2017
السياسة وسيلة لا غاية، هي أداة للتفكير في صياغة الحلول المجدية لسائر المشكلات والتحديات الداخلية والخارجية، وهي وسيلة المجتمع لوضع الخطط والبرامج؛ لتحقيق الطموحات الشعبية في حياة حرة وكريمة ومستقرة وآمنة، لكل أفراده. ومن أجل ذلك مطلوب أنسنتها؛ حتى تتحول الخطط والبرامج إلى واقع حقيقي معاش يلمسه الناس، عندما تتوفر لكل فرد في المجتمع فرصة للتعليم الجيد، والعمل المنتج، والسكن المناسب، والأمن الصحي، والغذاء الكافي، وبالطبع الكرامة الوطنية، إزاء تدخلات أي جهة أجنبية.
بداية، لا بدَّ من التفريق بين الواقعية، كمنهج سياسي عملي قائم على حسابات دقيقة وإدراك وفهم عميقين للمعطيات الميدانية، يرمي إلى تقليل الخسائر وتعظيم المكاسب، وإلى توظيف الموارد الاقتصادية والبشرية المتاحة في حل المشكلات الموجودة، وبين الوقوعية التي تعني الاطمئنان للأمر الواقع، وافتقاد الفاعلية، والاكتفاء بدفع بعض الضرر. وفي هذا السياق، ينبغي التفكير بواقعية، في السياسة المحلية والإقليمية والدولية معًا، فلا يمكن تجاهل أنّ الشحن المعنوي الذي يحشد الجماهير، خارج إمكانات الواقع، لطالما انتهى إلى كوارث، في الحالة العربية وغيرها.
إنّ الواقعية السياسية مدرسةٌ ذات شأن في العلاقات الدولية، قامت عليها أمم، وتكوّنت إمبراطوريات، لا تقوم على حساب ركائز القوة المادية الملموسة، العسكرية والاقتصادية والتقنية فقط، بل تمتد إلى ما يسمى “القوة الناعمة” التي تتمثل في الحنكة الديبلوماسية، لنسج علاقات وتحالفات وشراكات إقليمية ودولية، تخدم السلم والأمن والتنمية، بعيدًا عن استخدام الوسائل العسكرية.
إنّ (إسرائيل)، التي تدرك مأزقها الوجودي وانكشافها كدولة إرهابية، تجتهد، غير مكتفية بقدراتها العسكرية، في أن تنمّي في ذاتها خصائص الدولة الأكثر “طبيعية” في العالم الحديث: نظامها السياسي والاجتماعي، ومؤسساتها العلمية والتعليمية والقضائية، وجيشها واقتصادها، كلها مطابقة للمعايير العالمية التي تعرِّف ما هو “طبيعي”، وما هو بالعكس، شاذ أو متخلف، كحال مؤسساتنا ونظمنا.
ما ينبغي الاعتراف به هنا هو أن (إسرائيل) على الأغلب -كما رأى الكاتب ماجد كيالي محقًا- مدينةٌ بهذا التميّز والقدرة على الاستقرار والتطور، لطريقة إدارتها أوضاعها، ولمجتمعها، وخصوصًا لنظامها السياسي الديمقراطي (بالنسبة إلى مواطنيها اليهود)، الذي يضفي عليها قوة مضافة، ويجعلها قادرة على تحويل عناصر ضعفها إلى قوة، على عكس الواقع العربي الذي يعيد إنتاج علاقات الضعف والتهميش والتآكل.
قد تبدو هذه المقاربة جاحدة وفظة، لكنها تريد القول بأولوية معركة التقدم والارتقاء الحضاري على ما عداها. فلو كانت مدارسنا وجامعاتنا من مستوى لائق، وبرلماناتنا تنهض بأدوارها التمثيلية والتشريعية والرقابية، وسلطاتنا القضائية تضمن العدالة للسكان بدل بيعها لمن يستطيع الشراء، ومواطنونا يستطيعون انتقاد حكامهم على نحو ما غدا شائعًا، في دول “طبيعية”، ولو كانت سجوننا خالية من سجناء الرأي والضمير، لو كان كل ذلك متوفرًا؛ لما كانت حالتنا كما هي الآن.
وبالمقارنة مع أوضاعنا، فإنّ (إسرائيل) تبدو أكثر قدرة على التحكم بالتناقضات الداخلية فيها، بين العلمانيين والمتدينين، واليهود الشرقيين والغربيين، والمتطرفين والمعتدلين، واليسار واليمين، وذلك بفضل نظامها الديمقراطي، وحرية الرأي والاعتراف بالآخر وبالتنوع والتعددية، والمساءلة والمحاسبة، وتداول السلطة.
المعنى من ذلك أنّ هذه الدولة، وعلى الرغم من تناقضاتها الداخلية، والعداء لها من محيطها، فإنها تبدو، في واقع الأمر، أكثر استقرارًا ونموًا وتطورًا من غيرها. بالمقابل فإنّ الأوضاع العربية تتبين -يومًا بعد يوم- عن مزيد من الاضطراب والتشوّه السياسي والاجتماعي والاقتصادي والثقافي، ونحو مزيد من النكوص في اتجاه العصبيات المذهبية والطائفية والعشائرية والعرقية، في حين تبدو سلطات أغلب الدول العربية في غربةٍ عن مجتمعاتها، بعد أن همّشت هذه المجتمعات، وأقعدتها في زاوية من دون حراك.
إنّ مشكلة السياسة العربية تقوم، في أساسها، على عدم إعطاء النفس مساحة للتفكير العميق، وعدم وجود تعريفات دقيقة للمفاهيم التي يتداولها الناس، حين يتناولون أمور السياسة. فمن أبرز مساوئ الثقافة السياسية في منطقتنا العربية توظيف المعلومات والمعطيات، لتخدم أجندات سياسية وفكرية محددة، لذا لا بدَّ من السعي للتأسيس لمعرفة موضوعية، والاشتغال على دراسات وأبحاث خارج الإسقاطات السياسية وتأثيراتها الأيديولوجية.
عبد الله تركماني
[sociallocker]
جيرون