نوستالجيا مشرط رخيص للكتابة



لا أجدُني إلّا مُنحازًا للذكريات، لمساقطها، لملاعبها الأولى، للغبار الذي أراهُ يسيل مع دمي، إثر كل جرح أو طعنة عابرة، للدروب الترابية صيفًا والموحلة شتاء، لذلك الوحل الطيّع الذي حوّلنا إلى نحاتين، وحوّلناه كتلًا تشبهُ حيواتنا، وحيواناتنا التي تعيشُ معنا، ونتعايش معها كما لو أنّها أحدُ أفراد الأسرة. أذكرُ أني صنعتُ فرسًا بلا لجام وسرج وحذوات، ورأيتهُ يركضُ في نفسي، حتى أوهمتُ أقراني بأنّ أشكالنا التي من وحلٍ حقيقةٌ وليست أوهامًا، ففعلوا مثلما فعلتُ: من لديه طيرٌ طيّره، ومن لديه سيارةٌ سيّرها صباحًا إلى شأنها في المدن بركابها، وأعادها مساءً بهم وبالمؤن والمرضى ووصفات الأطباء الثقيلة على القرى هناك، ومن لديه أنثى، كان اسمها “فتنة”، ولها ضفيرتان سوداوان ووجه مائل إلى النحاس، نام معها وحرّك نزعتها إلى ما لا يحدث في العلن، ويحدثُ في غرف سرية وعلى عجل، حتى سال على فخذيهما دمٌ حارٌ لا لون لهُ، سوى أنّ ملايين الحيوانات تسبحُ، الحيوانات التي لو عاشت، ورأت النور في تجويف معتم؛ لكان لها حيواتٌ وقصصٌ تروى.

أنا ابنُ صحراء، وهذا الأخضر لا يشدني إليه، أعيشُ مع فرسي التي تشبهُ الريح، وتتنفس معي الآن، إلى دواب زوجة أبي، أمي الثانية، لا أحبُّ الكلب الذي يرافقُ الشياه، وأرهفُ السمع إلى عواء ذئب جبلي، ينحدرُ إلى السهول، يبحثُ عن طريدة معافاة، ليست سهلةً، لطالما وجدتُه حيوانًا نبيلًا، لا يعتاشُ على الفطائس، شرسًا، له أنياب فاتكة، ومخالب قوية تتركُ أثرًا في المعدن، ذا قلب قوي، عينه إلى الأمام، والخلفُ عنده هزيمةٌ، يا سيدي الذئب: فدتك كلُّ كلاب الغنم، الكلاب التي لا تعرفُ إلا إلية المرياع، و(خرج) الراعي، ومسار القطيع.

امحاء الحسرات تنكّرٌ للذكريات، محاولةٌ ذليلةٌ لإذلال الحنين، والنظر إليه بوصفه مادةً رخيصةً في المنطوق والكتابة، أشفقُ على هذا البؤس كفكرة، قبل أنْ أحقد على أصحابه اللئيمين، الوجهُ الآخر لئلّا نكون هنا، في الضدّ من ذواتنا، هو أنْ نكون كرماء في ضدية واضحة مع التقليل من شأن تلك الأشكال الطينية، الأشكال المطواعة وقدْ دبّت فيها الحياة، سواء في الأحلام أو في الخيال الذي ما زالُ يجهدُ في أنْ يحافظ علينا، ككائنات لها الكتابةُ والأساطيرُ الشخصيةُ، والأخلاق، حيثُ نشكلُ قطيعًا من الغنم ونتناسى اللصوص، نشكّلُ ذئبًا فلا نتذكرُ منهُ إلّا طبعهُ السيد، نشكّل بشرًا مختلفين، لهمُ طبائعهم، ولونهم، وانتماءاتهم، وقبائلهم المتناحرة فيما مضى، وننسى أن في نفوسهم ضغينةً أو رغبةً أصيلةً في الثأر. كانت منحوتاتنا بدائيةً، لكنّها نبيلةٌ، وإلّا ما عاشت إلى يومنا هذا، وقطعت معنا كلّ هذه المسافات الوعرة، وانفتحتْ على عالم ليس عالمها، ولغة ليستْ لغتها، حتى صرنا وهي آلات، ما يميزنا ويميزها عن آلة المعدن أننا من لحم ودم، وهي من وحل أدخل خيالنُا الروح فيها، وورطّها لتعيش هذا الأنين الذي يشبهُ صفير قطار قديم، يمرُّ بالقرى التي كالندوب على وجه الأرض بين (تلكوجر) والقامشلي.

كنتُ أجلسُ على تل، يشرفُ على بيوتات متلاصقة، بدتْ كأجساد تتقاربُ خائفةً من خطر يتهددها، لربّما كان في المشهد الذي قرأتهُ آنذاك شيئًا من النبوءة، عن عصابات لا تنتمي إلى المكان وتتوازعهُ كغنائم حرب غير عادلة، في مكان آخر، بئرٌ فرنسي له جواب للعطش، يتوسطُ شتاءً (الخبْرة) الآسنة، تجعلُ الوصول إليه صعبًا، ولا يخوضُ في الماء إلا المغامرون، قيل: “ثلاث جثث تحللتْ في البئر”، تتضاربُ القصص حولها، لكنّ المؤكدّ أن واحدةً منها صحيحة: رجل وامرأة وطفلة؛ ما جعل القرية بمائها المالح، تشيحُ عن الخزان الذي يستقبلُ ماء السماء ويحفظهُ نقيًا، فلا يكونُ إلّا من حصة الحيوان؛ إذ كيف يمكنُ لبشر ترّبوا أنْ يعيشوا معًا، تلازمت أحلامهم وآلامهم، أنْ يشربوا ماءً فيه أرواحُ قتلى. هلْ سيبقى التساؤلُ عن مادة تحتفي بالحنين قائمًا، حين يكونُ العالمُ الذي غادرناه نزيهًا وكريمًا وميّالًا إلى دين الفطرة، ما كان يسميه، ويدعيه، ويضربُ بسوطه، لكنهُ ينزُّ من جسده وروحه. لعلّ في هذه المثالية خروجٌ عن منطق الأشياء، غير أنّهُ دخولٌ إلى منطق المعقول والمعاش والناس الذين ملكوا الخيال ورأوه حقيقةً، حتى آمنوا وأمِنوا!

الحنينُ ليس اجترارًا ولا طمأنينة فيه، تمنحُ الراوي البعيد عن أهله روايةً محايدةً ونزيهةً، وتتركهُ يتحدثُ عن منجز الحياة الجديدة، بوصفه أحد روّاد فندقها، إنّما الحنينُ سكينُ حادةٌ، قبل أنْ تسميه طبيبةٌ سويسريةٌ، تدرسُ حال جنود مرضى بـ “النوستالجيا”، ثمة حزٌّ عميقٌ في مقطع الروح، يرتقي بالصرخة إلى مصاف الفعل المشغول عليه، ليصبح المستمعُ بدلًا من أنْ يرهف السمع إلى مصدر الصوت وقوته، يتابعُ الأثر الذي يتركهُ.

لو تركتمُ لنا الحنين؛ لرسمنا الدخان المرتفع عنْ قرانا، ذلك الذي تشيعهُ المدافئُ ووقودها روثُ الدواب، وكذلك الدخانُ الذي تخلفُه نارُ اليوم، النارُ المزهوة بحالها ومن سبع سنين، كلّما خمدتْ في مكان؛ اشتعلتْ في آخر، اتركوا لنا مادتنا الرخيصة في الكتابة، واكتبوا أنتم عن قضايا الإنسان، زواج المثليين، أحزان القطط في شباط، الإسلام والإرهاب، النساء الشهيات في الأربعين، النساء اللعوبات في الخامسة والعشرين، اكتبوا عن “الأركيلة” ومعسّل أبو التفاحتين، عن الأخلاق الحميدة والثورة، عن الشعر الذي ينتمي إلى الثورات، عن الشعر الذي لا ينتمي إلى أحد.

فضيلةٌ أخرى للحنين، تجعلُ الكتابة مخلصةً لحالها وناسها الذين ربّما لن يقرؤوا، لكنهم سيشعرون بأجيجها، كلّما سنحتْ الفرصة بالتوصل صوتًا بكاتبه، والحنينُ يجعلُ كاتبًا موجوعًا بشغله، مشغولًا عن الآخرين، فليسوا (الآخرين) دريئة لأفكاره، أو المران الذي يبيّنُ فيه نزاهته وأخلاقهُ العالية وبطولاتهُ الدونكيشوتية، ظنًا أنْ طعن الآخر بأخلاقه سيبرئ ساحته، ويخرجه نظيفًا!

أكتبُ روايتي على مهل متلذذًا بالسكين التي تغور في روحي، وكلّما ارتخت أُسعَد بأياد تضغط على مقبضها!

اللوحة للفنان السوري ديلدار فيلمز
محمد المطرود


المصدر
جيرون