السعودية بين التحديث والديمقراطية

21 تشرين الثاني (نوفمبر - نونبر)، 2017
9 minutes

يشهد العالم في هذه المرحلة أول تغيير حقيقي في مملكة آل سعود، بعد التأسيس الذي صنعه الملك عبد العزيز آل سعود عام 1932، حيث تعاقب من بعده ستة من أولاده على الحكم، وآخرهم الملك الحالي سلمان بن عبد العزيز (82) سنة، والذي اجترح جديدًا بنقل العرش من جيل الأولاد إلى الجيل الثالث في العائلة الملكية، أو ما يعرف بجيل الأحفاد، تمهيدًا لوصول نجله الأمير محمد بن سلمان إلى سدة العرش قريبًا.

دخل “بن سلمان” المجال العام، منذ 15 نيسان/ أبريل من عام 2007، يومَ عُيّن مستشارًا متفرغًا في مجلس الوزراء، ولم يتجاوز عمره 22 سنة، ليصبح بعد عشر سنوات وليًا للعهد ووزيرًا للدفاع، ويجمع في يده عددًا من الصلاحيات الأمنية والسياسية، فهو رئيس “مجلس الشؤون السياسية والأمنية السعودي”، وكذلك رئيس “مجلس الشؤون الاقتصادية والتنمية” اللذين أعلن عنهما بداية عهد الملك سلمان عام 2015، ورئيس “اللجنة العليا لمكافحة الفساد” التي أعلن عن تشكيلها يوم 4 تشرين الثاني/ نوفمبر الحالي، والتي عرفت بليلة القبض على الأمراء، بمناسبة إلقاء القبض على نحو 11 أميرًا من العائلة الحاكمة، إضافةً إلى 38 وزيرًا ونائب وزير؛ بهدف إسكات أو تغييب أي صوت معارض، للمرحلة التي يتم رسمها بعناية فائقة.

الانتقال سريع الإيقاع لولاية العهد، من الأمير مقرن بن عبد العزيز بداية، إلى الأمير محمد بن نايف، قبل أن تستقر لمحمد بن سلمان، جاء محمولًا على شرعية 31 صوتًا، من أصل 34 شخصًا، يمثلون هيئة البيعة، في أعلى نسبة تصويت للهيئة، لم تكن مقنعة للكثير من الأمراء وبعض أوساط النخب الاقتصادية والدينية في المملكة، والتي لم تخفِ تذمرها من سياسات الملك ونجله معًا؛ فجاءت عمليات الاعتقال التي طالت بداية عددًا من قادة تيار الصحوة، ومسؤولي هيئة “الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر”، بعد فترة وجيزة من إلغاء استقلالية هذه الهيئة ودمجها داخل “وزارة الشؤون الإسلامية”؛ ليتطور الأمر لاحقًا إلى اعتقالات واسعة للأمراء وقيادات الصف الأول من وزراء ومسؤولين، تحت تهديد التجريم بالفساد.

من جهة أخرى، قدّم مشروع الولاية الجديدة للعهد وجهًا اقتصاديًا آخر، سبق للأمير أن طرَحه عبر “مجلس الشؤون الاقتصادية والتنمية”، في نيسان/ أبريل الماضي، باسم “رؤية السعودية 2030″، كخطة لما بعد المرحلة النفطية، لكنه انتظر فعاليات “منتدى مبادرة مستقبل الاقتصاد”، بتاريخ 24/ تشرين الأول من هذا العام، والذي شُبّه بـ “منتدى دافوس الاقتصادي”، ليكشف عن تفاصيل مشروع (نيوم) كجزء من الطموحات التي كان يرسمها بن سلمان، من أجل تنويع الموارد وتقليص الاعتماد على النفط، إضافة إلى تخفيف الأعباء عن الدولة نتيجة الاقتصاد الريعي، والتركيز على توسيع ودعم القطاع الخاص، لخلق فرص عملٍ للشباب السعودي.

يُقدّر حجم الاستثمارات، في مشروع مدينة (نيوم) التي تمتد على شاطئ البحر الأحمر بين السعودية ومصر والأردن، بقيمة 500 مليار دولار أميركي، كما يتوقع لهذه المدينة الجديدة التي سبق لرئيس وزراء (إسرائيل) السابق شمعون بيريس أن حلم بمثيلتها، أن تنافس المدن الكبرى في العالم، من حيث القدرة على جلب الاستثمارات العالمية، وبشكل خاص استثمارات شركات الطاقة المتجددة والتكنولوجيا الحيوية والصناعات المتقدمة، إضافة إلى اعتبارها مدينةً للصناعة الترفيهية أيضًا، بخاصة أن وكالات الأعمال فيها مستثناة من الضرائب والجمارك، “باستثناء الإجراءات السيادية”؛ ما يتيح الخدمات والسلع، بأسعار تنافسية عالميًا.

لم يخفِ ولي العهد، بمناسبة طرح المشروع، رغبته في دفع المملكة والمجتمع السعودي باتجاه الاعتدال والتحرر من الأفكار المتشددة، مؤكدًا أن المدينة الجديدة ستوفر لسكانها نمطَ حياة أكثر تحررًا، حيث سيُسمح بإقامة الحفلات الموسيقية والأنشطة الترفيهية فيها، ضمن إطار تنظيمي مصمم خصيصًا لتوفير القوانين الاستثمارية التشجيعية، ولذلك لن تخضع للقواعد واللوائح المعمول بها في السعودية، بخصوص تطبيق أحكام الشريعة الإسلامية.

كما أعلن ولي العهد، في ذلك المنتدى، أن مدينة (نيوم) المملوكة بالكامل لـ “صندوق الاستثمارات العامة السعودي”، يمكن أن تدرج مستقبلًا في الأسواق المالية، إلى جانب شركة النفط العملاقة (أرامكو)، وهي الحلقة الأهم في سلسلة برامج الخصخصة السعودية.

تشكل هذه الإجراءات استجابة لتطلعات جيل الشباب والنساء عمومًا، الذين يُشكّلون 70 بالمئة من المجتمع السعودي، فالانفتاح الاجتماعي والثقافي في المملكة، باعتباره ضرورة تاريخية، يعكس حالة استقطاب ضمن تلك الشرائح، حيث شاركت النساء لأول مرة في الانتخابات البلدية، كما سُمح للمرأة بقيادة السيارة التي كانت إشكالية في المملكة، كما سمح لها بدخول الملاعب الرياضية، دون أن يخفي “بن سلمان” رغبته في مكافحة التشدد الديني داخل المملكة، باعتبارها العتبة الأولى لولوج العصر، والتي شبهها بعضهم بمحاولة تأسيس الملكية الثانية في السعودية، كما ذهبت أحلام البعض إلى استحضار تجربة محمد علي النهضوية في مصر.

غير أن الوجه الآخر للمعادلة يتمثل بتذمر شرائح واسعة من السعوديين نتيجة تقليص دعم السلع الأساسية، والذي ترافق بزيادة كبيرة في الأسعار، لا تتناسب مع الطموحات الاقتصادية التي يتحدث عنها ولي العهد، كما يشير البعض إلى إخفاقات في السياسة الخارجية التي يشرف عليها بن سلمان، ابتداء من حرب اليمن، وليس انتهاء بالموقف من قطر، ناهيك عن تململ المؤسسات المحافظة دينيًا، والتي وجدت في إجراءات بن سلمان تهديدًا لقوتها داخل المجتمع السعودي، حتى إن البعض يتخوف من انفراط عقد الأسرة الحاكمة السعودية، أو من حدوث انقلاب مضاد وشيك في السعودية، إذ لا يمكن أن يبقى الأمراء في الحجز إلى الأبد، وإن كانوا في فندق خمس نجوم.

زحمة المتناقضات السابقة تشجعنا على القول، ومن باب الانحياز إلى مشروع التغيير والضرورة التاريخية، وكل إجراءات الانفتاح التي أشرنا إليها سابقًا، إن تلك الإجراءات تبقى رغبوية وفردية، ينقصها العمل المؤسساتي الذي يربط مشروع النهضة بحوامل موضوعية داخل المجتمع، لذلك هي تحتاج إلى تفعيل دور الإعلام والحريات الصحفية، وصولًا إلى الشفافية داخل المجتمع، والتي تمهد للوصول إلى ديمقراطية سياسية حقيقية، تقوم على تداول السلطة، وهذا بالمعنى العياني يفترض انتقال السعودية إلى ملكية دستورية، تُشكّل رافعة لولوج مجتمعاتنا المتخلفة إلى العصر، والانضمام إلى ركب الحضارة الإنسانية.

المشروع النهضوي يحتاج إلى الكثير من الحريات الفردية، لتمكين الشباب والنساء من التعبير عن أنفسهم، بطريقة حرة، لكنه يحتاج أكثر من ذلك إلى تمكينهم من المعرفة لحماية حقوقهم وحرياتهم، وقد بدأ مشروع محمد علي النهضوي بالتركيز على التعليم أولًا، فمتى تبدأ عملية تطوير المناهج التعليمية في السعودية، للخروج من الغيبيات، ولتتناسب مع قيم وروح العصر وحقوق الإنسان؟

قلت في البداية إن العالم يشهد في هذه المرحلة أول تغيير حقيقي، في مملكة آل سعود، لأن السعودية تُشكّل بالنسبة إلى العالم وزنًا، ومكانة دينية واقتصادية لا يُمارى فيها، إضافة إلى أهميتها السياسية في المنطقة العربية وفي المعادلات الإقليمية، منذ نشأتها حتى الآن، ومن هنا، تأتي أهمية الضرورة التاريخية لعملية التغيير التي تجري في السعودية، لكنها يجب ألا تكون مجرد تغيير في السلالة الحاكمة، بل يجب أن تؤسس لعقدٍ اجتماعي جديد في هذا البلد، يساهم في استعادة توازنه الداخلي، واستعادة دوره الإقليمي تاليًا، وبشكل خاص في سورية واليمن.

أنور بدر
[sociallocker]

المصدر

[/sociallocker]

جيرون