التاريخ المنبوذ، أو الخريف الساخن



دفعة على الحساب:

سنة 1966، تاريخ تنفيذ حكم الإعدام على سيد قطب، برفقة سبعة آخرين، ظهرت أولى بوادر الانقسام والتصدّع الفكري في المرجعيات الدينية لتيار الإسلام السياسي في مصر، متمثّلاً في حركة “الإخوان المسلمين”، بين شقيّن: شقّ يتزعمّه حسن الهضيبي الذي انتهج نهج الحوار والاعتدال، وشقّ آخر اختار طريقًا آخر أدى إلى نشوء حركة الجهاد الإسلامي في مصر، وكان من أبرز المنتمين إليها أيمن الظواهري. كان هذا التنظيم متأثّرا بأفكار سيد قطب الذي صاغها في كتابه (معالم الطريق) مشخّصًا العالم وما آل إليه، مشبعًا كتابه بـ “نوستالجيا” الأزمنة الغابرة والأمجاد الضائعة، مقسّمًا العالم إلى فسطاط الإيمان، وفسطاط الكفر.

مثّلت أطروحة سيّد قطب مرجعًا فكريًا لعدد من الجهاديين والسلفييّن، متأثّرين تحت وطأة التاريخ وسطوة الأنظمة العربية، بأنْ لا خلاص للدولة إلاّ بالإسلام، باعتباره دينًا ودولة في آن؛ ومن هنا انبثقت من رحم التصوّرات (القطبيّة) اللبنة الأولى نحو بلورة جماعات جهاديّة، ولم تكن حركة الاتجاه الإسلامي (التونسية)، استثناء في العالم العربي في درجة تأثّرها بأفكاره.

مذكّرات عالم جامعي وسجين سياسي، أو شهد شاهد من أهلها:

في خطوة جريئة وصعبة، قام وزير التعليم العالي والقيادي في (حركة النهضة)، بنشر مذكرّاته الصادرة في الكويت سنة 2014، دون دار نشر، بعنوان (مذكّرات عالم جامعي وسجين سياسي: سنوات الجمر شهادات حيّة عن الاضطهاد الفكري واستهداف الإسلام في تونس) الكويت، 2014، مؤرّخًا لتفاصيل وحيثيات وإرهاصات المجموعة الأمنيّة وأهدافها، وأسباب نشأتها، وجميع التفاصيل المنوطة بعهدتها واللبس الحائم حولها، هذا الكتاب الذي تمّ سحبه من تونس فور وصوله وتوزيعه بين المكتبات، ولم يقم أيّ قيادي في حركة النهضة بتكذيبها أو حتى التعليق عليها.

مصافحة العنوان، والولوج نحو مضمونه:

بمصافحتنا للكتاب، نجد أنفسنا أمام ضروب شتى من الحيرة، تجاه عنوان يثير الغموض والاهتمام في آن، عنوان الكتاب كاملًا كان (المجموعة الأمنية الجهاز الخاص للحركة الإسلامية في تونس وانقلاب 1987)، العنوان كان حديثًا يرويه الجميع، ولا يجرؤُ أحد على الإفصاح عنه علانية، شائعة غامضة، أو حقيقة منقوصة، وهذا الكتاب بلور صورة مجموعة، لقّبها النظام، بمجموعة من “المخربّين والإرهابيين”، ولقبّت حركة الاتجاه الإسلامي هذه المجموعة بـ “مجموعة الإنقاذ الوطني”، أمّا الصحافة، فاختارت الحيادية منهجًا في استقرائها لحيثيّات هذه المجموعة، وأسمتهم “المجموعة الأمنيّة”، كما عبّر الصحفي أحمد نظيف في كتابه.

يستهلّ أحمد نظيف كتابه بنبذة عن تاريخية الإسلام السياسي والحركات الجهادية التي اتخذت من السلاح والإرهاب منهجًا في تحقيق حُلمها التاريخي، رابطًا بين خروج الأب الروحي للجهاديين سيد قطب وأطروحته وتأثر عديد الإسلاميين بها. الكتاب كان توثيقًا وبحثًا صحافيًا، ينبش في تاريخ غامض لحركة الاتجاه الإسلامي التي تنكّرت له بعد وصولها إلى سدّة الحكم.

يروي “نظيف” ببساطة وقائع خريف ساخن وطويل عاشته تونس عام 1987، لم ينته إلا بنهاية حكم الرئيس الحبيب بورقيبة. كان كل شيء في الظاهر يوحي بأن جنرالًا قويًا داخل النظام قد حسم الأمر لصالحه وأطاح برئيسه. لكن خلف هذا المشهد كان الجنرال القوي يسابق الحركة الإسلامية نحو السلطة، ويتحرك ليلة السابع من تشرين الثاني/ نوفمبر في اللحظة الأخيرة وعند السنتيمتر الأخير. هكذا صاغ وعرّف “أحمد نظيف” أطروحة كتابه المركزيّة، بين غموضها وندرة التعرّض لتاريخها والحديث عنه.

شكليّا، امتدّ الكتاب على 218 صفحة موزعة على ستّة فصول، قسّمها إلى خمسة عشر عنصرًا، ناشرًا معها خمس وثائق نادرة وخطيرة، تخرج للعلن المرّة الأولى في تاريخها، من بينها رسالة الراحل منصف بن سالم للدكتور أحمد المناعي، شهادة صالح كركر حول المجموعة الأمنية، شهادة الجهادي أبي مصعب السوري حول المجموعة الأمنيّة، قرار دائرة الاتهام في القضية عدد 76111، بالمحكمة العسكرية بباب سعدون 1992، معنونًا إيّاها على شاكلة استفسار “هل تمت إعادة بناء الجهاز الخاص بعد 1987″، وأخيرًا تم إنهاء الوثائق ببرقية من أعضاء المجموعة الأمنية إلى رئيس الحكومة.

هذا الكتاب، الذي أتى على شاكلة بحث أركيولوجي في وثائق مرتبّة كرونولوجيّا، وهو إلى ذلك قراءة ممعنة في مرحلة مهمّة من تاريخ تونس، بأسلوب استقصائي، دون أن ينتحل دور المؤرخ أو يدعيه، مسلّطًا الضوء على علاقة “الإخوان المسلمين” بـ (حركة النهضة)، وعلاقة الأخيرة بنظام بورقيبة وبن علي، وكيف تتقاطع وتلتقي، ليرفع اللبس عن هذه المجموعة، والأهم من هذا كله، هو تطرّق الكتاب إلى الكوادر الأمنية والمدنيّة التي كانت مخترقة أكثر المؤسسات حساسية، مبرزًا كونها، كانت جهازًا استخباريًا موازيًا للدولة.

حلم تاريخي، وهاجس كل تنظيم إسلامي:

“لا تتجاذب الأضداد إلا نادرًا، غير أن علاقة الإسلاميين بمؤسسات العنف في الدولة، أمنًا وجيشًا، تطبعها مقولة تجاذب الأضداد، هناك سعي محموم من الطرفين إلى معرفة أكبر قدر من المعلومات والتفاصيل عن الطرف الآخر. وسعي أكثر ضراوة إلى إخضاع الآخر، بين الطرفين. لكن الحركات الإسلامية لم تكن السباقة -عربيًا- في محاولات الاندساس داخل الجيش، من المحيط إلى الخليج. كان البعثيون الأكثر براعة في ذلك، لكن هذا لا يعني أبدًا زهد الحركة الإسلامية العربية، في السلطة وفي الوصول إليها، من خلال الجيوش وعبرها. وقائع كثيرة حدثت هنا وهناك تدل على ذلك”. [ص25]

هكذا استهل الصحافي أحمد نظيف، في مقدمّة كتابه، الحديثَ بحذر وموضوعية عن الجماعات الإسلامية وعلاقتها بمؤسسات السلطة والقوة، أمنيّة كانت أو عسكريّة، والتطرّق إلى الشخصيّات المحورية والتي كانت تلعب دورًا مهمّا في هذا التنظيم “العميق” واستراتيجية المجموعة إلى إنهاك الأمنيين والعسكريين بمواجهات يومية نهارًا وليلًا، وسلسلة التفجيرات التي هزّت الشريط الساحلي في أربعة فنادق سنة 1987، في رمزيّة تاريخية لا تقلّ في مضمونها عن تحدّ صارخ للدولة، في عيد ميلاد الرئيس الحبيب بورقيبة، كذلك التعذيب والاعتقالات والإيقافات التي تعرّض لها منتسبوها، وطموح (حركة النهضة) في الوصول إلى سدّة الحكم.

بين روايات الاعتراف وسرديّات الإنكار؛ كيف نفهم المجموعة الأمنيّة اليوم:

يستهلّ الكاتب أحمد نظيف تحليله، في الفصل الثالث الذي اختار له عنوانًا (مجموعة طارئة أم تنظيم عميق)، بفصلين يتناقضان في جوهرهما، هما روايات الاعتراف وسرديّات الإنكار. كان الوضع في حالة من الفوضى الخلّاقة والتسيّب والغليان والانفلات الأمني نسبيًا. وصفه الكاتب عام 1987 بأنه كان ساخنًا، فقد “بدا من الواضح أن النظام يعيش أيامه الأخيرة، لكن لا أحد كان يعلم تمامًا كيف ستكون نهاية حكم المجاهد الأكبر الذي لم يستطع مجاهدة شهوة السلطة، حتى آخر ليلة من عهده المثير للجدل خريف العام نفسه”. [ص85]، من هناك كان تشكّل ملامح المجموعة الأمنيّة موجّهة بوصلتها نحو السلطة.

“كان أوّل اعتراف صدر عن (حركة النهضة) بمسؤوليتها عن المجموعة الأمنيّة، عندما كانت تسمى حركة الاتجاه الإسلامي، قد صدر عن قائد المجموعة نفسها، منصف بن سالم في العام 2003. كان اعترافًا مفصلًا، بالأسماء والأحداث والتواريخ والنقد الذاتي المحتشم. قبل ذلك التاريخ، كانت أحاديث الإسلاميين حول المجموعة ومشروعها غائمة ومتذبذبة بين الإنكار التام والاعتراف الضمني”. [ص86]. هذا الاعتراف الذي يعتبر شهادة تامّة حول مشروع المجموعة، وهو يمثّل إدانة للثابت والمعروف؛ حيث فصّل، في رسالةٍ أرسلها إلى الدكتور أحمد المنّاعي مدير المعهد التونسي للعلاقات الدوليّة، تفاصيل المجموعة الأمنيّة.

ثمة سرديّة أخرى تفنّد هذه الرواية قصد تقويضها، كان بطلها شيخ الحركة ورئيسها راشد الغنوشي، فقد ورد في الصفحة 96 و97 من الكتاب؛ أمير الحركة الشيخ راشد الغنوشي كان دائمًا أشد المنكرين. الرجل كان في السجن، خلال ترتيب العمليّة تحت حراسة مشدّدة. وطيلة سنوات المهجر، كان الشيخ شديد الحساسية في وسائل الإعلام، تجاه هذا الملفّ الخطير، حتى إنّه توعد في العام 2002 الكاتب التونسي المثير للجدل، العفيف الأخضر وجريدة (الحياة) اللندنية بالملاحقة الفضائية، في أعقاب نشر الجريدة لمقالة للأخضر، من العام نفسه، يتّهم فيها الحركة الإسلامية بتكوين جهاز عسكري والتخطيط لانقلاب.

كانت بصمة الصحافي أحمد نظيف، واضحة في تحليله واستقرائه لتاريخ الحركة الأسود، هذا التاريخ الذي ظلّ يلاحق (حركة النهضة) على الرغم من محاولة طمسها له، وكان استقرار تونس وهلع المجتمع ضريبة له، وربّما لا أبالغ؛ إذا قلت إنّ العشرية السوداء التي شهدتها الجزائر من جرّاء عصبيّة ودموية الجبهة الإسلامية للإنقاذ، سيناريو وارد في تونس، لولا فشل مخطّطهم، مع أنّ مخططّ الجنرال بن علي كان قاتمًا، ولا يقلّ بطشًا عن مشروعهم.

هذا الكتاب الفريد، والذي يعدّ أوّل كتاب يرسي محاولة جديّة، نحو توثيق محاولة انقلاب حركة الاتجاه الإسلامي يوم 8 تشرين الثاني/ نوفمبر 1987، يوم قبله كان انقلاب الرئيس المخلوع بن علي، يوضّح مدى تعطّش الإسلاميين للسلطة آنذاك، وربّما إلى يومنا هذا.

……………………………………………

أحمد نظيف: كاتب وصحافي تونسي من مواليد 1985 تطاوين، صدر له كتاب (بنادق سائحة: تونسيون في شبكات الجهاد العالمي)، عن المعهد التونسي للعلاقات الدولية 2016، وكتاب (المجموعة الأمنية، الجهاز الخاص للحركة الإسلامية في تونس وانقلاب 1987) عن ديار للنشر والتوزيع 2017.


أسامة سليم


المصدر
جيرون