الحياة في الظل.. دمشق التي تغيرت
22 تشرين الثاني (نوفمبر - نونبر)، 2017
[ad_1]
كان على وشك أن يغادر سوق الحميدية، عندما لمح الرتلَ يتقدم باتجاه “الجامع الأموي”، في طريقه إلى “مقام رأس الحسين بن علي” الذي رقد، قبل ثلاثة عشر قرنًا، مدة قصيرة في فنائه، قبل أن يرحل إلى العراق. اضطر (أسامة. ن)، يوم الخميس الفائت، أن يتأمل المشهد بعناية فائقة: رجال نصف عراة، يتمايلون بحركات مدروسة، ورايات تركز عباراتها على تمجيد أهل بيت الرسول، وأخرى ترى أن كل أرض كربلاء، فيما يصوّب أصحاب اللحى الخفيفة نظرات غاضبة، تجاه المارة، وكأنهم ضحايا معركة خاسرة، انتهت للتو آخر فصولها.
بدافع الفضول، تابع أسامة الموكب، ببطء، حتى الباب الرئيسي للأموي. ووصف لحظة دخول الحشد للجامع بـ “الاقتحام”. وهو أشبه بالاقتحامات التي يشهدها -حسب رأيه- المسجد الأقصى. في مقاربة بصرية يسترسل أسامة: من الأمور العادية بالنسبة إلينا، رؤية الزوار لمقام الإمام الحسين، فقد كانت شأنًا قديمًا، لكن الغلو بطقس الزيارة، في هذا الوقت بالذات، ينم عن رسالة سياسية طائفية، فاضحة، تكشف مدى التغلغل الفارسي في سورية، ونفوذ إيران الذي يتوسع باضطراد في المنطقة.
لا تبدو دمشق مسرورة بما يجري الآن على هذا الصعيد؛ فقد احتج السكان في أكثر من مناسبة، على تنامي هذا المشهد غير المعتاد، وضراوته، وشدة خطورته. ومنذ أن أطلق الأسد شعاره الشهير: “البلد لمن يدافع عنها”، ومنَح الحق لهؤلاء بممارسة نفوذهم وطقوسهم في آن معًا؛ انكمشت المدينة على نفسها، وبدت أضعف مما كان يحتاج إليه التصدي لأناس يستمدون القوة في الواقع، من دورٍ داعمٍ يؤدونه تجاه نظام قاتل.
كان من الواضح للعموم أن الحرب التي نفضت يدها من كل سلوك نظيف، عندما سمح الأسد لعناصره بقتل المدنيين المسالمين بالرصاص، وإبادتهم لاحقًا بالبراميل المتفجرة والسلاح الكيماوي، قد فرضت قوانينها السيئة، ليس فقط على الذين اختاروا الحياد، وصمتوا، بل حتى على الشيعة المحليين أنفسهم؛ إذ انحاز أغلبهم إلى جانب الأسد، وبدلًا من أن يقفوا موقفًا أخلاقيًا إزاء هذه الجرائم؛ سجلوا أول خرق مجتمعي في الجسم السوري، وأعلنوا صراحة دعمهم للنظام القائم.
ساعدت العلاقات الطيبة التي أسسها حافظ الأسد مع إيران، بين عامي 1975-2000، في تنامي الدور الشيعي في سورية، وشهدت البلاد -على فترات متقطعة- بناء حسينيّات تمتعت بحرية تدريس أدبيات المذهب، ونشر التشييع، بدعم من الأخ الأكبر للأسد الأب (جميل الأسد) الذي أسس جمعية خاصة تعنى بهذا الشأن. وبعد أن تولى الأسد الابن مقاليد السلطة، ارتبط مع إيران و(حزب الله) الشيعي في لبنان، بعلاقة نوعية، شكلت بداية تطور مهم لتمدد الطائفة، وانتشار خطابها المذهبي، وظهور طقوسه الدينية إلى العلن.
كما دفعت أوضاع العراق السياسية، خلال العقود الثلاثة الأخيرة من القرن المنصرم، أعدادًا كبيرة من شيعة العراق باتجاه سورية، تلتها موجات أخرى بين عامي 2000-2006، بعضها لبنانية. لكن بحسب (مركز ابن خلدون للدراسات الإنمائية) في القاهرة، لا يشكل الشيعة في سورية سوى 1 بالمئة من عدد سكان البلاد، يتمركز أغلبهم في مدينتي دمشق وطرطوس.
في العقد ما قبل الأخير، كان حي (السيدة زينب) الذي يقع على أطراف دمشق الجنوبية، ينعم بحياة مشتركة، تضم مختلف أطياف المجتمع، وقد ازدهرت تجارته بشكل كبير، بعد أن نشطت زيارة وفود الحجيج الشيعة، من إيران والعراق ولبنان، لمقام “زينب” ثالثة أبناء فاطمة الزهراء بنت النبي، التي تقدسها عقائدهم. غير أن الحي سرعان ما تحوّل، مع بداية الحرب، إلى كانتون شيعي، تخلت الطوائف المخالفة بمعتقداتها عن بيوتها وغادرته، مغبة أن يلقى أفرادها مصيرًا مروعًا، على يد ميليشيات “لن تُسبى زينب مرتين” الذراع العسكري.
يرى مراقبون أن الشيعة المحلية، التي كانت تربطها علاقات جيدة مع نخب دمشق الثقافية والاجتماعية والاقتصادية، هي أول من قاتل إلى جانب الأسد في المعركة، بعد طائفته. وبخلاف طوائف المدينة الأخرى، فقد تطوع شبابها في مجموعات مدنية-عسكرية، أقامت حواجز أمنية في مختلف الأحياء، بهدف تفتيش الأهالي، وتدقيق هوياتهم، ومطابقتها مع لوائح جاهزة للمطلوبين، سياسيًا أو عسكريًا لأداء الخدمة.
يقول “محمد. ف” إنه لم يجد في التاريخ ما يُفرق سكان حي الميدان الدمشقي الذي يقطنه، عن سكان حي الأمين: معقل الشيعة الرئيس. فقد كان له أصدقاء عمل، يرتاد بيوت بعضهم، بين فترة وأخرى. وألمح إلى أن سياسة النظام الطائفية، أحدثت شرخًا في جسم المجتمع، دفع الشيعة في هذا الحي وغيره، إلى حمل السلاح “ضدنا”، والقتال إلى جانب قواته. يضيف: لم يقتصر الأمر على هذا المنحى، بل قام الشيعة الجدد، الذين قدموا من خارج الحدود، باستبدال أسماء الأحياء التي سكنوها، كالأمين والشاغور والجورة وشارع الثانوية المحسنية، بأسماء أخرى ذات صبغة طائفية، تحمل أسماء جعفر الصادق وزين العابدين وأبو الفضل العباس، تعميقًا للانقسام المجتمعي الذي بدأه الأسد، وإذكاء للسعار الطائفي الذي بات يهدد مستقبل الحياة داخل البلد.
يزداد نفوذ الشيعة الجدد على نحو لافت، ففي خريف 2015 شكلت روسيا تحالفًا عسكريًا بالاتفاق مع إيران، لدعم الأسد، كان قوام قوته القتالية البرية ميليشيات شيعية، إيرانية وعراقية وأفغانية ولبنانية. تمثل راهنًا جسمًا جديدًا، ينشط على نحو متزايد في دمشق، وهو الجسم الذي يقود حاليًا ما يطلق عليه “المواكب الحسينية”، ويهتف لإيران بلغات أجنبية. ومع أن الأسد (حليف طهران الأهم في المنطقة) لا يجد حرجًا من تعابير فارسية كهذه، تمجد خامنئي و”نصر الله”، في بلدٍ لا يعترف بغير العربية لغة محلية، وتدعم علاقته مع عمائم “قم”، تلك العلاقة التي وصفتها مستشارته لشؤون الإعلام بثينة شعبان بـ “المصيرية”. إلا أن هذه الهتافات أثارت قلقًا كبيرًا لدى السوريين، نتيجة مخاوف، مردها أخطار هذا التمدد الذي يوفر فرصة لإيران، من شأنها أن تعزز نفوذها ووجودها، في منطقة تمتد من طهران حتى شواطئ المتوسط.
في سنوات الحرب العجاف، ازدادت دمشق كآبة، وبفعل عوامل الغلبة، والهيمنة، والتسلط، باتت أشبه بمدينة منكوبة، تغيب عن أسوارها القديمة، وقصورها الشامخة، ومبانيها التاريخية، وشوارعها العريقة، معالم عاصمة كانت تحكم واحدة من أعظم عشر إمبراطوريات، عرفها تاريخ العالم، وتبسط نفوذها فوق مساحة تساوي عُشر مساحة الأرض، تمتد من أطراف الصين شرقًا، وحتى جنوب فرنسا غربًا، لتحل محلها معالم ومظاهر غريبة، أفقدت عاصمة الأمويين صورتها العربية المشرقة.
علاء كيلاني
[ad_1]
[ad_2]
[sociallocker]
جيرون