الرياض 2 بين “موقعتي” سوتشي وجنيف



يبدو أن من الصعب الحكم على مخرجات مؤتمر (الرياض 2)، قبل إتمام انعقاده ورؤية مآلاته وشكل توجهه، وذلك خلافًا لما كانت عليه التوقعات، قبل مؤتمر (الرياض 1)، الذي كان مهيّأً بشكل واضح للخروج بصيغة موحدة، تلاقي استحقاقات القرارات الدولية، في كل من (جنيف 1) وقرارات مجلس الأمن ذات الصلة، وبخاصة 2254. فحيث يذهب الكثيرون اليوم إلى خوض معركة سياسية متناقضة، تحاول استقراء ما ستؤول إليه جولات المعارضة السورية، بكل صنوفها ومنصاتها ومحاورها المتعددة، تقف عند محطتين من القراءة، في مجريات الحدث السوري وتشعباته الإقليمية والدولية:

الأولى أن أجواء مؤتمر (الرياض 1) كانت أجواء صريحة وواضحة، أتت في سياق توافق دولي على إيجاد حل سياسي تفاوضي للمسألة السورية، يحقق خرقًا في مسار العسكرة المتدهور، إبّان التدخل الروسي فيها، ويعمل على تحقيق وحدة جهود المعارضة السورية المسماة بـ “المعارضة الخارجية” ممثلة بالائتلاف، و”المعارضة الداخلية” الممثلة بهيئة التنسيق ومن يتبعها، وتهيئتها لجولات تفاوضية، باتت ماراثونية، من “جنيفات” متعاقبة.

الثانية أن أجواء مؤتمر (الرياض 2) اليوم، ورياح التغيير السعودية، مواتية جدًا، لتغليب الحل السوري، خصوصًا أن مخاضات التغير في السياسة الخارجية السعودية واتجاهها المباشر والمعلن، والمتفق مع بعض الجهود الدولية الأميركية والأوروبية، لوضع حد للتمدد الإيراني في المنطقة وخطرها الإقليمي على عمومها، بخاصة في سورية، وبدءًا من سورية أيضًا. لكن -وكل “لكن” فاتحة لعمل المبطن والتأويل- السؤال الواضح هنا: لماذا هذا القلق وهذه الضبابية، إزاء استحقاقات (الرياض 2)، من غالبية القوى السياسية المعارضة والثورية السورية، سواء التي تصدرت المرحلة السابقة، في ملفات التفاوض على أساس (الرياض 1)، أو تلك التي التزمت الدعم السياسي والفكري وربما التقني، لإنجاح كل آليات التفاوض والخروج بحل سلمي سياسي، طال انتظاره؟

في تفاصيل الدعوات الموجهة لمؤتمر (الرياض 2)، يلوح في الأفق -بحسب ما يصرح به المسؤولون السعوديون، وبخاصة الجبير- أن السوريين بمنصاتهم مدعوون جميعًا إلى الحوار، والتفاهم على مخرجات حلهم السياسي! يأتي هذا في سياق عزم الروس، بشكل جدي وحثيث، على عقد (مؤتمر سوتشي) أيضًا لعموم السوريين و”شعوبهم” المتعددة! فهل يستطيع (الرياض 2) إفشال “سوتشي” باستباق كهذا لإجماع سوري مختلف؟ أم سيكون مقدمةً لجر كل ألوان المعارضة السورية إلى منتجع “سوتشي”؛ ومنها إلى حضن الوطن وربوعه الدافئة!

يذهب الكثير من المعارضة السورية إلى الوقوف عند ثوابت الثورة واستحقاقاتها، وهذا حق ونقطة استناد أولى، لوجودها أصلًا كمعارضة سورية دفعت الغالي والنفيس، ولكن يغالبها الشك والريبة في معنى إشارات ضم بعض المنصات غير المحسوبة على المعارضة أساسًا، بل بالعكس التي أثبتت حضورها المعاكس لكل تياراتها ومجريات حدثها، كمنصة موسكو وتيار بناء الدولة، ولجان استشارة دي ميستورا وغيرها. فلو كانت رياح التغيير العاصفة التي تقودها السعودية لتقليم أظافر ومخالب إيران في المنطقة جادة؛ لاكتفت بالتأكيد على مخرجات ومقررات مؤتمر (الرياض 1)، وأشارت إلى باقي المنصات “الألف” السورية، لاتباع خطواتها!

خلف الكواليس، ثمة اتفاقات غير معلنة، يكاد يكون المتسرب منها غير كافٍ لأي تحليل سياسي، مهما بلغ من الدقة والعمق، فما سُرّب عن اتفاق روسي-أميركي، ومن خلفه إسرائيلي، على ضرورة إخراج إيران من العمق السوري، تُخاتل به روسيا، إلى درجة تبادل تهم التكذيب العلني، بين خارجيتي البلديين: روسيا وأميركيا، هذا مع إصرار روسي على عقد مؤتمر بديل، “فضال”، والفضال نقطة تجمع وامتصاص ميكانيكية، عن جنيف في منتجعها الكبير: سوتشي؛ ما يجعلها تترقب بحذر شديد مخرجات مؤتمر (الرياض 2)، وكيفية الإشارات التي ستخرج منه.

فإن كان الفرض الجدلي القائل بعزم فعلي للسعودية، لوضع حد للتمدد الإيراني في سورية والمنطقة؛ فستكون الإجابة من مؤتمر الرياض هي إرضاء شبه نسبي، لكنه مرتفع الفاتورة للروس في مخرجات المؤتمر، بخاصة على صعيد شكل تمثيل المعارضة السورية سياسيًا، بغية استمالة الروس لرفع الغطاء -ولو نسبيًا- عن إيران و(حزب الله) وميليشيات (الحشد الشعبي) العراقية، وإلا؛ فإن خطأ الفرض الجدلي يعني الوقوف في مواجهة المد الروسي، وتعنته المعلن بفيتو حادي عشر متتالي، يجعل الروس، ومن خلفهم الإيرانيون، يحكمون السيطرة على الملف السوري تمامًا، سياسيًا وعسكريًا، وسيكون من السهل حينئذ العمل على تجنيد كل الأجندات الدولية والديبلوماسية الروسية، على ضرورة الترويج لعقد مؤتمر سوتشي، بعد فشل السعودية في رأب الصدع القائم، في ما يسمى صنوف معارضات سورية. وعليه سيكون سوتشي، بهذه الحالة، نقطة الانطلاق الجديدة لجنيف، بدلًا من الرياض.

تعقيد المشهد الإقليمي وضبابيته، وكثرة ملفاته المخفية والساخنة، يلقي بظلاله الثقيلة على المعارضة السورية، الفعلية منها والمصنّعة، والتركة الأكبر تقع على عاتق الشعب السوري الذي يذوق مرارات نكبة عالمية على أرضه، في معادلات صعبة وخيارات، أقل ما يقال عنها أنها إجبارية! مطرقة النظام، وسندان “داعش” المتواري والمختفي كفقاعة هواء، وتنازع إقليمي ودولي على أرضه، واستباحة دمه وتهجيره واستسهال استثمار تضحياته، وملفات لا تنتهي من الاعتقال والجريمة الممنهجة، واستخدام كل صنوف الأسلحة المحرمة دوليًا، والتي يبدو أقلها الكيماوي، في موازاة الفيتو اللعنة، صاحب الرخصة الشرعية الدولية للقتل.. كل هذا يجعل المعارضة السورية في أعقد نقاط المشهد السوري، منذ سبع سنوات، ويجب عليها بالضرورة، وهي تقف بثبات عند مخرجات (جنيف 1) ومصلحة الشعب السوري، كبديهية أولى، أن تأخذ بالحسبان ضرورتين مهمتين:

الأولى إن كانت الثورة قد باتت على وجه الخسارة العسكرية؛ فعليها العمل على كسب المعركة السياسية، ضمن موازين القوى الدولية، بخاصة المرور عبر التفاهم الروسي–الأميركي، وهو ما تدركه وتسعى إليه السعودية، على ضرورة الحد من النفوذ الإيراني.

والثانية مفادها ضرورة إنهاء المرحلة الحالية، من مراحل التفاوض السياسي واستعصاء الحل فيه، والبحث بكل جدية عن توافق دولي، يضمن الموافقة الروسية حصرًا على ضرورة الحل السياسي السوري، إن لم يكن ليس بكامل سلة (جنيف 1) في تشكيل هيئة حكم انتقالي كاملة الصلاحيات، بل في حدها الأدنى ضرورة إجراء التغيير والانتقال السياسي، بخاصة على صعيدي بنية النظام الأمنية أولًا، والسياسية ثانية، وإلا؛ فإن كل رياح التغيير الممكنة ستقف عند حاجز فيتو ثاني عشر روسي، يكمل “دزينة” الإجهاض لأي مخرج أو جدية للقاءات المعارضة السورية. وعندئذ؛ ستكون المنطقة برمتها ترقص على وقع طبول حرب كبرى، أقلها سياسية تغير كل موازين المنطقة وتوجهاتها الاستراتيجية وطرق إدارتها.


جمال الشوفي


المصدر
جيرون