الرقة: خلال وبعد الطوفان



المحتويات

مقدمة

أولًا: استعراضات “طائشة”

ثانيًا: تبخّر (داعش)

ثالثًا: انتهاكات

رابعًا: إدارة بالقوة

خامسًا: ما بعد الطوفان

سادسًا: خاتمة

مقدمة

دخلت سيطرة الميليشيات الكردية المدعومة أميركيًا على الرقة شهرها الثاني، ومرّت حوادث وتطورات لافتة على هذه المدينة الشمالية التي كانت يومًا ما تُعتبر عاصمة (تنظيم الدولة الإسلامية) في سورية، وكانت هذه الحوادث والتطورات سلبية في مجملها، يمكن أن يُؤشر سياقها العام إلى ما ينتظر هذه المدينة، أو بالأدق، ما ينتظر الشمال السوري في المرحلة المقبلة.

في 17 تشرين الأول/ أكتوبر 2017، وبعد حملة عسكرية استمرت نحو أربعة أشهر، بدعم من التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة، أعلنت (قوات سورية الديمقراطية – قسد) التابعة لحزب الاتحاد الديمقراطي الكردي عن سيطرتها على مدينة الرقة شمالي سورية، وقالت إنها “حرّرت” الرقة كليًا وطهّرتها من مقاتلي التنظيم الإرهابي، لكن “المعارضة السورية” وأهالي المدينة قالوا إنه “احتلال” جديد لا يقل سوءًا عن سابقه.

بعد سيطرة الميليشيات الكردية على الرقة أثارت ثلاث قضايا اللغط والتساؤلات، الأولى طريقة استغلالها “الطائشة” لبث رسائل قومية “شوفينية” توحي بالفعل بأنها مُحتلّ جديد للمدينة، والثانية اختفاء مقاتلي (تنظيم الدولة الإسلامية) من المدينة بشكل غريب وسريع، والثالثة رفض أي طرف- عدا الولايات المتحدة- الاعتراف أو التعاون مع الميليشيات الكردية لإدارة المدينة ورسم معالمها المقبلة، سياسيًا وعسكريًا وديموغرافيًا، وهذه القضايا وغيرها سترسم مستقبل المدينة وما حولها في المستقبل القريب.

أولًا: استعراضات “طائشة“

فور سيطرة الميليشيات الكردية على مدينة الرقة، أو “استلامها” من (تنظيم الدولة الإسلامية)، استنسخ مقاتلو (قوات سورية الديمقراطية) ما قام به مقاتلو (داعش) قبل ثلاث سنوات، في ساحة الشهيد حسين جاهد، من استعراض عسكري لمظاهر القوة، و”التفحيط” بالمدرعات في وسط الساحة، والإفراط برفع الرايات القومية والصور، واستعراض صور للأحياء المدمّرة كليًا في المدينة.

قام المقاتلون الأكراد بإنزال الراية السوداء لـ (تنظيم الدولة الإسلامية) من (دوار النعيم) وسط المدينة أو ما كان عُرف سابقًا بـ (دوار جهنم) الذي شهد الكثير من عمليات الإعدام الجماعي بحق المدنيين خلال فترة سيطرة التنظيم على المدينة، لكنّهم رفعوا فورًا بدلًا منه سارية عملاقة عليها علم كردي، لا يعني لأهالي المدينة أي شيء.

أقيمت احتفالية كبيرة في المدينة، بحضور مقاتلين أكراد، أغلبيتهم العظمى من غير السوريين، ينتمون إلى (حزب العمال الكردستاني)، رفعوا خلالها صورة كبيرة لعبد الله أوجلان، زعيمهم الكردي المعتقل في السجون التركية، ورفعوا أعلام (كردستان)، ورايات صفراء لتنظيمات وأحزاب كردية، بعضها سوري وبعضها غير سوري، وخلت الاحتفالية نهائيًا من أي ملامح ومظاهر سورية أو عربية، وأعلنوا أن الرقة لن تعود إلى سورية كما كانت إلا ضمن “لا مركزية اتحادية”، ليربطوا بذلك مستقبل المدينة التي خرج منها مقاتلو (تنظيم الدولة الإسلامية) بمشروعهم لإقامة مناطق حكم ذاتي كردية في شمالي سورية.

رفض شيوخ عشائر الرقة حضورَ احتفالية الميليشيات الكردية بالسيطرة على المدينة، كما لم يحضرها أي من المعارضين أو الناشطين المعروفين في الرقة، ورفض أهالي المدينة ووجهاؤها أن يكونوا جزءًا من مجلس محلّي عيّنه الأكراد وحاولوا أن يُطعّموه ببعض من أبناء المدينة، وفشلوا في ذلك.

أُقيمت الاحتفالية في الملعب البلدي في المدينة، وعزا نائب رئيس مجلس محافظة الرقة، التابع للائتلاف السوري المعارض، محمد حجازي، أسباب امتناع شيوخ العشائر عن الحضور إلى “غياب أي ملامح عربية في الاحتفالية، من خلال رفع الرايات الصفراء للتنظيمات الكردية، إضافة إلى صور (أوجلان) التي تصدّرت المشهد”.

كانت استعراضات الميليشيات الكردية مُبالغًا فيها، وجارحة للكثير من السوريين، معارضين للنظام ومؤيدين له، ومُستهجنة بالنسبة إلى الرأي العام الدولي، وأثارت حنقًا تركيًا إضافيًا ضد الأكراد، واستياءً روسيًا وإيرانيًا، ما دفع ببعض القيادات الكردية لتبرير الاحتفالية، ورفع صورة أوجلان وسط الرقة، بأن المقاتلين وصلهم خبر يتعلق بسوء صحة أوجلان في سجنه فعبّروا باستعراضاتهم عن تضامنهم معه، ولم تُقنع هذه الحجج أحدًا من المُنتقدين.

هذه المقدمة التي قامت بها الميليشيات الكردية، والاستعراضات “الطائشة”، كانت كافية وحدها لدفع “المعارضة السورية” للقول إن الولايات المتحدة استبدلت في الرقة تنظيمًا إرهابيًا بمنظمة إرهابية، كما دفع “النظام السوري” أيضًا إلى الإعلان عن أن الحرب لن تنتهي إلا بطرد الميليشيات الكردية من الرقة واسترجاعها لتعود إلى سيطرة النظام، كما دفع تركيا للقول إن الولايات المتحدة ترعى إرهابيين في الرقة.

في المقابل، التزمت واشنطن الصمت حول أداء ذراعها العسكري الكردي في الرقة، وغضّت الطرف عن ممارسات عناصر (قسد) السلبية في المدينة، وقال بعض المعارضين السوريين إن الإدارة الأميركية قررت غضّ الطرف عن هذه الانتهاكات مقابل خدمات هذا الطرف، خاصة أنها قررت ألّا تزجّ قواتها في الحرب السورية خشية أي مصير مماثل لفيتنام أو أفغانستان أو العراق.

ثانيًا: تبخّر (داعش)

عندما سيطرت الميليشيات الكردية على الرقة، تبخّر فجأة مقاتلو (داعش)، واستفرد حلفاء الأميركيين بمصير المدينة، وقاموا بتدمير مقارّ التنظيم وسجونه، والتي من المفترض أن فيها أسرى احتجزهم التنظيم في أوقات سابقة، ودمّروا كل الأدلة التي يمكن أن تُوصل إلى هؤلاء الأسرى من أبناء المدينة وسواها.

خلال الحملة العسكرية، قالت (قسد) إن عددًا كبيرًا من قادة ومقاتلي التنظيم الأجانب مُحاصرون في الرقة، ويريدون التفاوض على الخروج منها من دون قتال، وتناقضت الأرقام خلال أربعة أشهر، فمرّة قالوا إن المقاتلين يطلبون مئتي حافلة، وفي مرة ثانية قالوا إنهم يحتاجون إلى عشرين حافلة فقط ليخرجوا من الرقة مع أسرى اشترط مقاتلو التنظيم أن يُخرجوهم معهم كدروع بشرية؛ ما يعني أن أعداد مقاتلي التنظيم وعائلاتهم وفق ترويج (قسد) كانت تتراوح بين ألف وعشرة آلاف شخص، لكن التقديرات التي تحدّث عنها التحالف الدولي تراوحت بين 300 و600 مقاتل، وتقديرات سكان المدينة قالت إن أعدادهم أقل من ذلك، ونُدرة هم الأجانب بينهم.

سيطرت الميليشيات الكردية على الرقة من دون أن يظهر أي مقاتل من مقاتلي التنظيم الأجانب، واختفى كل أثر لهم، ولم يرَ أبناء المدينة المُدمّرة أيًا منهم، وقال الأهالي إن الميليشيات الكردية اتّخذت من الترويج والمبالغة بوجود هذا العدد الضخم من مقاتلي (تنظيم الدولة الإسلامية) الأجانب حجّة لتقوم قوات التحالف الدولي بتدمير المدينة كلّيًا على رؤوس أصحابها، وهو ما حصل؛ فوفق حملة (الرقة تُذبح بصمت) فإن معركة الأكراد والتحالف للسيطرة على مدينة الرقة تسببت بدمار 90 في المئة من المدينة، ومقتل 1873 شخصًا ونزوح 450 ألف شخص منها.

في محاولة للخروج من الورطة، عرضت (قسد) صورًا لاستسلام 275 عنصرًا سوريًا من (تنظيم الدولة الإسلامية)، لكنّ سكان المدينة المُهجَّرين منها استطاعوا التعرف إلى بعض المعتقلين، وأكّدوا عبر وسائل التواصل الاجتماعي، وبعض وسائل الإعلام السورية المحلية “الثورية”، أن هذا “البعض” لا يمكن أن يكون بأي حال من الأحوال من مقاتلي التنظيم وإنما مجرد محاصرين في المدينة أو مرضى لم يقدروا على مغادرتها سابقًا، وهذا يُشكك في الرواية التي قدّمتها (قوات سورية الديمقراطية).

بعد يومين من سيطرة الميليشيات الكردية على المدينة، قالت مصادر من “المعارضة السورية” في مدينة القامشلي إن دفعة من مقاتلي (تنظيم الدولة الإسلامية) وعائلاتهم غادروا القامشلي بطائرة خاصة برفقة مسؤولين شيشان، وبحضور عضو في مجلس الاتحاد الروسي (الدوما)، زاروا جميعهم بتوقيت واحد مدينة القامشلي والتقوا بقياديين في حزب (الاتحاد الديمقراطي الكردي) على رأسهم صالح مسلم.

إلى ذلك، كشفت شبكة (بي بي سي) عبر تحقيق استقصائي حمل عنوان (سرّ الرقة القذر)، عن صفقة سريّة سمحت لنحو أربعة آلاف من مقاتلي تنظيم (داعش) وعائلاتهم بمغادرة الرقة برعاية الميليشيات الكردية وحمايتها، وبإشراف ومعرفة التحالف الدولي أيضًا، من بينهم عشرات المقاتلين الأجانب، وتوجّهوا إلى أنحاء مختلفة من سورية.

استند التحقيق إلى شهادات سائقي الشاحنات التي نقلت هؤلاء المقاتلين، وإلى شهادات أشخاص كانوا جزءًا من القافلة أو رأوها أو شاركوا في إعداد الصفقة، وأسهب التقرير في شرح كيف كذب المقاتلون الأكراد عليهم بتغيير نوعية “البضاعة” المنقولة، من أشياء إلى مقاتلين، وأرغموهم على تغيير مسار الرحلات التي كان من المفترض وفق الاتفاق أن تستغرق ستّ ساعات بينما استغرقت في الحقيقة ثلاثة أيام، نقلوا خلالها المئات من مقاتلي (داعش) وعائلاتهم، وكذلك أطنانًا من الأسلحة وذخائر التنظيم، حتى أنهم لم يقبضوا من الميليشيات الكردية شيئًا من الأتعاب المتفق عليها، وروى أحد السائقين أن طول القافلة وصل إلى 6 أو 7 كيلومترات، وتضمنت 50 شاحنة و13 حافلة، إضافة إلى عددٍ أكبر من السيارات.

هذه الصفقة تُذكّر بواقعة سيطرة ميليشيات (قوات سورية الديمقراطية) على حقل العمر النفطي بعد أن انسحب منه مقاتلو (تنظيم الدولة الإسلامية) بصيغة الاستلام والتسليم، من دون اشتباكات ولا مجابهات، وحين اقتربت قوات “النظام السوري” إلى بعد ثلاثة كيلومترات عن الحقل وأوشكت على محاصرته، شنّ مقاتلو (تنظيم الدولة الإسلامية) سلسلة هجمات على قوات “النظام السوري” في محيط مدينة الميادين لعرقلة وصول القوات إلى حقل العمر، وهو ما حصل.

ثالثًا: انتهاكات

نقلت وسائل إعلام عديدة عن أهالي المدينة، تأكيدهم على أن (قسد) فعلت كل ما في وسعها لتقديم معلومات وإحداثيات مُضلِّلة، نجم عنها مقتل مدنيين بالجملة، بما يمكن وصفه بجرائم الحرب، وكذبت بشأن معارك وهمية، وقصفت مدفعيًا بشكل عشوائي، وقامت بمحاصرة المدنيين بما يُخالف قوانين الحرب.

كذلك اشتكت منظمات رصد معنية من أن الميليشيات الكردية التي سيطرت على المدينة قامت بعمليات سرقة للممتلكات، وأطلقت عملية تجنيد إلزامي واسعة للشباب، واقتادت المئات من المدنيين إلى معسكرات اعتقال قرب عين عيسى، بل وأخفت المعتقلين والمختطفين الذي كانوا في سجون (تنظيم الدولة الإسلامية) أو قايضتهم.

مراقبة صور الشوارع المُدمّرة يُعطي فكرة عن عنف القصف الجوي والمدفعي الذي تعرضت له المدينة، ورأى البعض أنه تذكير أميركي لجميع الأطراف بالقوة العسكرية الساحقة للولايات المتحدة، وتذكير بأن الولايات المتحدة لا تنسى تهديداتها التي أطلقتها ضد التنظيم الإرهابي، ومن العبث استفزاز الولايات المتحدة التي ستردّ بقسوة حتى ولو بعد حين.

لم تصدر أيّ ردّة فعل من الولايات المتحدة، ربما لأن كل ما كان يهم البيت الأبيض هو أن تنجح هذه المعركة لأنها ستحقق نتائج سياسية مهمة لإدارة ترامب، ولا ضير في أن يكون عدد الضحايا كبيرًا، أو أن تُدمّر المدينة، أو أن تحتفل الميليشيات الكردية بالسيطرة عليها على طريقتهم “الاحتلالية”، ما استدعى غضّ الطرف عن انتهاكات طالما أن هناك حاجة لمرتكبيها، وطالما أن النتيجة- على المدى الأبعد- لن تفيد سوى الولايات المتحدة وحدها.

هذه الشكوك تتولد نتيجة معرفة واشنطن بكل المعلومات عن (تنظيم الدولة الإسلامية)، ولادته وانتشاره ومصادر تمويله، وتحالفاته وشراكاته، وتحركات قادته في سورية والعراق، وتأسيسه لعواصم ومدن الخلافة، من الموصل وحتى الرقة ودير الزور وغيرها، من دون أن تتعرض له بشكل جدّي، أو تعمل على القضاء عليه وتدميره أو، على الأقل، تفكيك مشروعه بسرعة، بل إنها استفادت إعلاميًا من تضخيم صورته وقوته وعنفه المفرط وإجرامه لتخيف الغرب ودول الإقليم.

حتى روسيا، التي مسحت جزءًا من مدينة حلب السورية نهاية العام الماضي، اتهمت التحالف الذي تقوده الولايات المتحدة في سورية بـ “مسح مدينة الرقة من على وجه الأرض” من خلال عمليات قصف شامل على غرار ما فعلته الولايات المتحدة وبريطانيا في مدينة درسدن الألمانية عام 1945. وقالت وزارة الدفاع الروسية، التي تورطت كثيرًا بتدمير المدن السورية وقتل المدنيين السوريين بالآلاف، إنه “يبدو أن الغرب يهرع الآن إلى تقديم مساعدات مالية للرقة للتستر على أيّ أدلة على جرائمه”، وقال الميجر جنرال إيجور كوناشينكوف المتحدث باسم وزارة الدفاع في بيان إن نحو 200 ألف شخص كانوا يعيشون في الرقة قبل اندلاع الصراع في سورية ولم يتبق هناك حاليًا أكثر من 45 ألفًا.

الرقة الآن مدينة مُدمّرة بالكامل، أكوام الركام وأنقاض المنازل تبعث برسائل واضحة عن الاستراتيجية الأميركية، وهو أن القوة المُدمِّرة المُفرطة حاضرة دائمًا، وأن الولايات المتحدة لن تتورط بريًا في سورية ما دام هناك من يمكن أن تستخدمه على الأرض، وأنها أيضًا لن تنسحب من المناطق التي تريد الهيمنة عليها حتى لا تتكرر معها تجربة سحب قواتها من العراق في العام 2011، وهو الانسحاب الذي أدى إلى انهيار كامل في صفوف الجيش العراقي، وإلى تورطها بريًا.

هذه الاستفادة من (داعش) لم تقتصر على الأميركيين والميليشيات الكردية، بل أيضًا كان هناك نصيب للنظام السوري وإيران وروسيا، فالكل استفاد من تضخيم صورته، وعقد في حالات خاصة معه صفقات مفضوحة، بل وأنقذه في بعض المناطق التي كان على وشك الانهيار فيها؛ وهذا يدفع للاعتقاد بأن الرقة هي ضحيّة من الضحايا التي آذاها الجميع.

رابعًا: إدارة بالقوة

بعد السيطرة على الرقة، قامت (قسد) بتعيين مجلس محلي للمدينة، كانت قد أعدّته مسبقًا قبل أشهر لهذه اللحظة، أغلبيته من الأكراد والبعض من سكان المدينة من الموالين لهم، على الرغم من أن وجود الأكراد في المدينة قبل الحرب السورية كان لا يزيد على 3% من عدد سكانها، وبدأ هذا المجلس المُعيّن يتّخذ قرارات بشأن المدينة بخلوّها من سكّانها الذين فرّوا منها بمئات الآلاف.

في بيان إعلان السيطرة على مدينة الرقة، أعلنت الميليشيات الكردية أن مدينة الرقة ستكون جزءًا من سورية “لا مركزية اتحادية”، وقالت إن مستقبل محافظة الرقة “سيحدده أهلها ضمن إطار سورية ديمقراطية لا مركزية اتحادية، يقوم فيها أهالي المحافظة بإدارة شؤونهم بأنفسهم”. وتعهّدت بـ “حماية حدود المحافظة ضد جميع التهديدات الخارجية، وتسليم السيطرة إلى مجلس مدني من الرقة”.

استبعدت واشنطن التعامل مع ناشطي الرقة وأهلها وقواها الحقيقية، وفضّلت التعامل مع الميليشيات الكردية الهجينة من مقاتلين أكراد أتراك وعراقيين وإيرانيين وسوريين، يسعون لمشروع بطابع قومي مرفوض من دول المنطقة.

أعلنت الولايات المتحدة سابقًا أنها لا تدعم مشروعًا سياسيًا لحزب الاتحاد الديمقراطي وذراعه العسكرية (قسد)، لكن هذه التصريحات تتعارض مع تصريحات المبعوث الأميركي إلى التحالف الدولي، بريت ماكغورك، في أثناء جولاته إلى المجالس واللجان المحلية في الرقة ودير الزور، حيث أعلن أن التحالف جادّ في دعم مجلس الرقة المدني الذي سيحصل على ما يحتاج إليه ليسهم في إعادة دورة الحياة إلى طبيعتها في المناطق المحررة.

في الحقيقة، يبدو أن التصريحات الأميركية التي تُشدّد على أن الولايات المتحدة لن تدعم مشروعًا انفصاليًا في المناطق التي يسيطر عليها “حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي”، باتت مشكوكًا فيها، فالولايات المتحدة، التي ترفض تقسيم سورية، دعمت حتى الآن (قسد) لاحتلال الرقة وتهجير سكانها، وإعلانها حكمًا ستحاول تثبيته، ينضم إلى فدرالية يقوم الحزب الكردي بالإعداد لها منذ ثلاث سنوات، ومنحتها مصادر الطاقة والتمويل والحياة: آبار النفط، سد الفرات، محطات الطاقة الكهربائية، وحقول القمح؛ كما أتاحت لها أيضًا شيئًا مشابهًا في مناطق تمتدّ من القامشلي حتى الرقة في معظم الشمال السوري.

لكن، يبدو أن مستقبل المدينة ووسائل إدارة شؤونها الخدمية واليومية، ووسائل تأمين حمايتها، ستظلّ جميعها قضايا مُعلّقة، وسط رفض السكان وجود الميليشيات الكردية في المدينة، وقبولهم مرغمين له، على الأقل طالما أن هذه القوات الكردية ستبقى من القوة بمكان لا تسمح لهم بتغيير الواقع. كما سيبقى هاجس السوريين عمليات التغيير الديموغرافي التي لم تتوقف الأذرع العسكرية لحزب الاتحاد الديمقراطي الكردي عن القيام بها، ليس في الرقة فحسب، بل في المناطق الشرقية والشمالية لسورية.

تقول سلطات (الإدارة الذاتية) الكردية التي أطلقها (حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي) في شمالي سورية، إنها تريد نظامًا اتحاديًا يسمح للمناطق بحكم نفسها من دون سيطرة مركزية، وتسعى لتطبيق فدرالية إدارية وسياسية في الوقت نفسه، الأمر الذي لا يبدو أن أي جهة مستعدة لتبنّيه، حتى الولايات المتحدة التي تدعم هذه السلطات، حيث واجهت خطط إقامة مناطق حكم ذاتي سياسي في شمالي سورية معارضة واسعة من الولايات المتحدة وتركيا وروسيا وإيران والسعودية، فضلًا عن “المعارضة السورية” و”النظام السوري”.

من جهته، رفض “النظام السوري” الطروحات الكردية حول إدارة الرقة في الوقت الراهن وفي المستقبل، وقال علي حيدر، وزير الدولة لشؤون المصالحة الوطنية في سورية، إن مستقبل الرقة لا يمكن طرحه للنقاش إلا في إطار منظومة سياسية نهائية للدولة السورية. وصرّحت بثينة شعبان، مستشارة رأس النظام في سورية، إن النظام لن يتخلى عن مدينة الرقة التي سيطرت عليها (قسد)، وصرّح بشار الأسد نفسه خلال لقاء مع علي أكبر ولايتي، مستشار المرشد الإيراني للشؤون الدولية، إن قواته وحلفاءه سيواصلون القتال في سورية بعد طرد تنظيم (داعش) من آخر معقل كبير له في البلاد بمحافظة دير الزور، وأشار إلى أنه ربما ينقل الحرب إلى (قوات سورية الديمقراطية) التي تسيطر على أكثر من ربع البلاد، قائلًا “يجب أن تستهدف الحرب من يسعَون لتقسيم وإضعاف الدولة”.

كذلك أكد ولايتي أن قوات نظام الأسد ستتقدم قريبًا في مناطق شرقي نهر الفرات، في إشارة إلى مدينة الرقة، وقال “لم ولن ينجح الأميركيون في العراق، ولن ينجحوا أيضًا في سورية… وقوات النظام ستواصل تقدمها حتى السيطرة على مدينة الرقة”.

في المقابل، كانت لافتة تلك الزيارة التي قام بها وزير الدولة السعودي لشؤون الخليج، ثامر السبهان، للرقة، بعد أيام من سيطرة الميليشيات الكردية عليها، برفقة بيرت ماكغورك منسّق التحالف الدولي ضد تنظيم (داعش)، ومبعوث ترامب للمنطقة، واعتبر البعض أنها قد تكون مقدّمة لنقل المدينة إلى مظلة عربية شاملة بدلًا من المظلة الكردية، فيما رأى فيها آخرون محاولات أميركية- كردية لاستمالة السعودية التي قد تتحالف مع الأكراد إن كان ذلك يساعد في تقليص النفوذ الإيراني، خاصة أن السعودية تمتلك نفوذًا وتقدر على إقناع عشائر الرقة العرب بأن يميلوا للهدنة وقبول السيطرة الكردية على المدينة؛ وصحيح، في هذه الحالة، أن الحضور السعودي سيكون لمصلحة المكوّن العشائري العربي، لكنه سيأتي ضمن العباءة الأميركية كما (قسد)، وهذا سيكون رهنًا بمآلات الاستراتيجية الأميركية في سورية والمنطقة، التي ليس من الضروري أن تكون في مصلحة سكان الرقة العرب، ويرفع حدّة التوتر مع تركيا.

إذًا، كان من الواضح أن مرحلة محاربة (تنظيم الدولة الإسلامية) في عاصمته المزعومة تتطلب تغليب البعد الكردي، لكن مرحلة ما بعد انهيار التنظيم تتطلب تغليب البعد العربي، ومن دون هذا التغليب فإن الرقة ستواجه، في الغالب، في وقت ليس ببعيد، انفجارات إثنية قومية بين العرب والأكراد، ولهذا تحاول (قسد) شرعنة السيطرة العسكرية عليها، واختراق البنى العشائرية، وإدماجها في المجالس المحلية، وخلق وقائع سياسية على الأرض تقطع الطريق على تركيا والنظام وروسيا وإيران والسعودية وكل طرف آخر.

أما تركيا، فقد اكتفت بوضع خط أحمر للقوات الكردية، وهي بالأساس ليس لها مصلحة مباشرة بمدينة الرقة، وتراقب الوضع فيها فقط من منطلق ضمان عدم خروج (قسد) عن حدود إدارية محددة، ومنعها من وصل (كانتوناتها)؛ وهي، لهذا السبب، تدعم عشائر المدينة، وتحاول إقناع واشنطن منح القوى المحلية دورًا أكبر في إدارتها، مدنيًا وعسكريًا.

خامسًا: ما بعد الطوفان

للرقة أهمية رمزية واستراتيجية لكل الأطراف، فهي مهمّة بالنسبة إلى (تنظيم الدولة الإسلامية) بسبب كونها مقرًا سابقًا لتخطيط عملياته الرئيسة في سورية، ولموقعها الجغرافي الذي يتيح للتنظيم حرية الحركة في مختلف الاتجاهات، ولاحتوائها على أهم سد لتوليد لكهرباء في سورية يمكن أن يدر عليه أموالًا ضخمة؛ وهي مهمة كذلك لـ (قسد) لأنها صلة الوصل بين (الكانتونات) التي تريدها لفدراليتها؛ وهي مهمة للأتراك لتقطع بها حلم الأكراد بالوصول إلى المتوسط، حيث لا يوجد لكل المناطق الكردية في سورية والعراق وتركيا أيّ منفذ بحري؛ وهي مهمة لروسيا وللنظام السوري بسبب الوجود العسكري الكثيف لهما هناك، والسيطرة عليها تُمكّن النظام من حصر فصائل “المعارضة السورية” ضمن “كماشات”؛ كذلك الأمر هي مهمة بالنسبة إلى الإيرانيين لأنهم يعتبرونها جزءًا من الطريق الذي يمكن أن يُكمل هلالهم الشيعي، ولأهميتها الدينية لهم، وهي التي بدأوا فيها التشييع في سورية منذ زمن الأسد الأب. لهذا من الممكن أن تبقى المنطقة الممتدة من الرقة وحتى الحدود العراقية أرضًا لمناوشات ومعارك مستمرة بين كلّ هذه الأطراف وأدواتها، أرضًا لصراع الجميع مع الجميع، أو أن تبقى أرضًا مشاعًا لا يمتلكها أحد، أو يُسيطر عليها سيطرة كاملة.

بعد سيطرته على المدينة عام 2014، فرض (تنظيم الدولة الإسلامية) قوانينه التكفيرية على سكان المدينة، ومارس إجرامًا لا حدود له، طال المعارضين للنظام والمعارضين للتنظيم بشكل أساسي، بينما كانت المواجهات بين التنظيم وقوات “النظام السوري” شبه معدومة، وكذلك الأمر بالنسبة إلى المواجهات بين التنظيم والميليشيات الكردية.

بسيطرة الميليشيات الكردية على المدينة، تقلّص نفوذ (تنظيم الدولة الإسلامية) في العمق السوري إلى درجة شبه معدومة، ومع سيطرة قوات النظام على دير الزور شرقي سورية، بات وجود (التنظيم) في كل سورية شبه معدوم أيضًا، عدا عن بضعة جيوب في مناطق مبعثرة، أو عبر بعض الفصائل المسلحة الموالية له والتي تُمثّله على الأرض، وانقسمت الترجيحات بين أن يشهد شمالي سورية استقرارًا على المدى المنظور، وبين أن تكون نهاية (داعش) في الرقة مقدمة لمواجهات كبرى بين قوى محلية وإقليمية.

طرح انهيار (تنظيم الدولة الإسلامية) أسئلة حول مستقبل التدخل العسكري الأميركي في سورية، لكن الولايات المتحدة حسمت الأمر سريعًا، وأعلنت أنها لن تنسحب من سورية حتى لو هلك (تنظيم الدولة الإسلامية)، وربطت مغادرتها بالتوصل إلى حلّ سياسي نهائي مضمون وراسخ في سورية، وهي تُعلن عن ذلك حتى لا تترك فراغًا بانسحابها، سيستغله الروس والإيرانيون و”النظام السوري”، وسيتسبب بهلاك المشروع الكردي برمّته، وانهيار ثقة حلفاء الولايات المتحدة بها. وفي هذا السياق، قال الرئيس دونالد ترامب “معًا، أي مع حلفائنا وشركائنا، سندعم المفاوضات الدبلوماسية التي تُنهي العنف وتسمح للاجئين بالعودة بسلام إلى ديارهم، وتؤدي إلى تحول سياسي يحترم إرادة الشعب السوري”، لكنّه لم يُشر إلى مستقبل الأسد، ولم يوضح أيضًا كيف ستدعم الولايات المتحدة قوات الأمن المحلية، ومن هي هذه القوات.

لكن احتمال تقارب (حزب الاتحاد الديمقراطي) وأذرعه العسكرية مع “النظام السوري” أمر مطروح، خاصة أن الطرفين لهما سجل قديم وعميق من التعاون المشترك خلال سنوات الثورة السورية، ومن الممكن إعادة تطييب الخواطر بينهما، والعودة إلى التنسيق المشترك العلني، فالحزب المعني له تجارب سابقة أيضًا في التحالف مع المتناقضات واستغلال الصراعات، ويعرف أنه لا حليف محليًا ولا إقليميًا له في مشروعه الانفصالي، والتقرب من النظام وموسكو قد يوفّر له حماية إضافية في حال قررت الولايات المتحدة تقليص مساندتها تحت أي ظرف، ويبقى الأمر رهن طبيعة العلاقة بين الولايات المتحدة والأكراد خلال المرحلة القريبة المقبلة.

أصبح مصير الرقة مرتبطًا بمستقبل شمالي سورية عمومًا، تلك المنطقة التي تشهد تغييرًا جديًا وخطرًا فيما يتعلق بهويتها وديموغرافيتها، خاصة مع سيطرة الميليشيات الكردية على مساحة 44 ألف كيلومتر مربع من الشمال السوري، لكن قضية قيام دويلة كردية أو إقليم مستقل تكاد تصبح أمرًا منسيًا، حتى في قناعة الأكراد أنفسهم، خاصة بمقارنة الوضع السوري مع ما حصل للأكراد من خسائر في كركوك العراقية.

أما قضية (تكريد) المدينة، فمن المؤكد أنه أمر مؤقت وعابر، إذ لا يمتلك الأكراد أي حجج للادعاء بأن هذه الأرض كردية، أو أن لهم أي امتدادات فيها؛ وبسبب حساسية الوضع القومي الذي أثارته الميليشيات الكردية، من المُرجّح أن الولايات المتحدة لن ترهن مصير الرقة بمصير الأكراد، وستضطر إلى أخذ عربها وأهلها في الحسبان في أي حل، حتى لو كانت تُخطط لمركزية أو فدرالية أو كونفدرالية.

سادسًا: خاتمة

يبدو أنها مرحلة إعادة رسم الخرائط السياسية في إقليم يعاني من اضطرابات سياسية واستراتيجية، وفوضى عسكرية غير مسبوقة. والخطر الكبير سيبقى ماثلًا لزمن ليس بقليل، وثمة سلسلة من الاعتبارات الاستراتيجية التي يرتبها خروج التنظيم من الرقة، منها أين اختفى التنظيم، وأين ذهب قادته ومقاتلوه، وما مصير مئات الآلاف من السكان، ومن سيقوم بإعادة تأهيل مدينتهم، وكيف يمكن للحكومة المركزية بدمشق أن تتحكم في هذه المنطقة الحرجة، وهل ستتعامل الميليشيات الكردية مع النظام، وفي حال تعاملوا معه هل ستبدأ حرب مفتوحة مع المعارضة، وهل سيبقى تقاسم الأدوار الناعم بين الروس والأميركيين، وهل سترضى إيران وتركيا بـ “حصصها” المعدومة تقريبًا، كلها أسئلة تُشير إلى انفتاح المنطقة على صراعات أعنف وأغرب، وإلى أن الأمور منفتحة على احتمالات كثيرة.


مركز حرمون للدراسات المعاصرة


المصدر
جيرون