انتهت (داعش) وماذا عن سلطة الأسد!



كانت الفكرة التي طرحها عددٌ من المهتمين بالحالة السورية، بخصوص (داعش) وتكامل وظيفته مع سلطة الطاغية، تقول: إن هزيمة (داعش) ستقوض سلطة بشار، والعكس صحيح. ولم تكن هذه الفكرة دعاوية تعبوية، بقدر ما هي، من الناحية الجوهرية، قد ارتكزت على التأثيرات التي جاء بها حضور أو استحضار (داعش)، للانخراط في الصراع داخل سورية، سواء بتقديم غطاء لادعاءات السلطة أنها تحارب الإرهاب، وأن ليس هناك ثورة مدنية تنشد حرية الشعب السوري، أو بما وفّره حضورها من مبررات مخادعة، للتدخلات الخارجية إلى جانب السلطة، بخاصة التدخل الروسي غير المسبوق، ومبررات مقابلة لانكفاء الدول والقوى التي أعلنت مناصرتها للشعب السوري، بتركيزها أن خطر الإرهاب هو الأهم، وأن شأن سلطة بشار ليس في سلم الأولويات. لقد تم توظيف وجود (داعش) على الأرض السورية، في المجالين: العسكري الميداني، والسياسي الدعاوي والدبلوماسي.

عسكريًا، قامت (داعش)، منذ ظهورها السافر 2012-2013، بتسديد ضربات مباشرة ضد مواقع قوى الثورة، في الرقة ودير الزور وإدلب وحماة ودمشق ومحافظة درعا، واستطاعت إنزال ضربات حاسمة بقوى الجيش الحر، حديث الولادة، في المواقع التي حررها من قوات السلطة وميليشياتها المحلية والأجنبية. وقدمت السلطة لـ (داعش) كلَّ التسهيلات اللازمة لحركة وتنقلات قواتها، وباعتها السلاحَ أو سلمته لها بالمجان.

وعسكريًا أيضًا، لكن بأدوات مختلفة، قامت السلطة وحلفاؤها بأبشع الهجمات على المواقع العسكرية المتبقية لقوى الثورة المعتدلة، بحجة وجود (داعش)، وفي غضون الهجمات الوحشية، كانت الضربات الفاشية تنال من القطاعات المدنية، في المناطق التي تُطلق عليها السلطة وحلفاؤها “حاضنة الإرهاب”، لأنها تمردت على السلطة مبكرًا وهزمتها في تلك المناطق، وأصبحت مناطق محررة من عصابات السلطة، ليس بفعل (داعش) بل بالدور البطولي للثوار السوريين الذين هبّوا من أجل الحرية. وبالعكس كانت (داعش) تكمل دور بشار في العمل على سحق الثورة المدنية وفصائلها المعتدلة، وتمده بكل سبل التضليل والتخريب؛ ليتمكن من كسب المواقف الدولية، وليضمن بقاءه، إن لم يكن على كل مساحة سورية، فعلى جزء منها، اصطلح عليه بداية “سورية المفيدة”، وتطور المصطلح إلى “سورية المتجانسة”، في تبرير فظ وعنصري وطائفي “أقلياتي”، لما ألحقته وحشيته وجرائمه بالشعب السوري، وما دفعت إليه تلك الهمجية من نزوح وهجرة خارج البلاد، زد على ذلك مئات آلاف المغيبين والمعتقلين والمخطوفين.

أما سياسيًا ودبلوماسيًا، فقد تم توظيف فزاعة (داعش)، في مؤتمرات جنيف وفي المحافل الدولية، اعتمادًا على الدور الروسي المباشر؛ لتأكيد ضرورة بقاء بشار في المرحلة الانتقالية، وحتى فسح المجال أمامه للترشح إلى ولاية جديدة، وفق “الدستور المزعوم”، الذي حاولت روسيا فرض مناقشته، قبل البت بمصير السلطة في المرحلة الانتقالية. والذريعة أن لا بديل له في التكوين السياسي السوري “السلطة والمعارضة”.

مؤخرًا، بيّنت التطورات الميدانية انتهاء (داعش)، وتقهقرها، بما يقترب من هزيمتها الكاملة في سورية، بعد خروجها من الرقة ومن دير الزور، كمعقلين استراتيجيين لنشاطها في سورية، ويتزامن ذلك مع تقهقرها في العراق والأنبار، وهو ما سيطرح استحقاقات جديدة، تنتظرها التطورات الشاملة في الواقع السياسي السوري. وهي استحقاقات ستكون سلطة بشار فيها أمام منعطف جديد وعميق؛ لأن التفاعلات الدولية والإقليمية لن تبقى متمحورة حول “مكافحة الإرهاب”، الذي اعتُمد، لدى الفاعلين الكبار (أميركا وروسيا)، للتغطية على التكتيكات والتحالفات والهجمات بآن معًا. فأين “سورية الأسد” من كل ذلك، في قادم الأيام؟

ربما لم ينتبه كثيرون إلى تقهقر سلطة المافيا، حين بدأ تداول فكرة “سورية المفيدة” وفوقها “سورية المتجانسة”، فما عادت سورية، كل سورية “سورية الأسد”. لقد فتكت بهذه اليافطة ثورةُ السوريين من أيامها الأولى؛ وهو ما دفع “مستشاري السلطة” ومنظريها إلى تسريب فكرة “سورية المفيدة” التي تنحدر وتتقزم فيها السلطة إلى حيّز جغرافي محدود في عدة مدن، لا رافع اقتصاديًا لها، ولا تعداد بشريًا يقيم لها شأنًا. وبعد نجاحات الوحشية الروسية والإيرانية في تدمير كثير من المدن والبلدات المحررة، وإنشاء ما يدعى “مناطق خفض التوتر”؛ استبدل بشار “سورية المتجانسة” بـ “سورية المفيدة”. كان ذلك حساب الحقل، بعد الحصاد الإجرامي للآلة الروسية وللميليشيا الطائفية الإيرانية وتوابعها، الآن تقترب الأوضاع من البيدر، وما سيناله النظام من جرائمه مع حلفائه، في مرحلة “ما بعد داعش”، إن جاز التعبير.

الاستحقاق الأول الذي تطرحه هزيمة (داعش) في سورية، هو في سقوط “ورقة التوت” التي استخدمت كستار على التغول الطائفي الإيراني، وما أحدثه من إخلال أمني وعسكري وديموغرافي في سورية، في وقت تقف فيه إيران بمواجهة تحديات كبيرة في المنطقة، كما في ملفها النووي والصاروخي؛ فأصبحت بنظر العالم هي مصدر الإرهاب الأول في المنطقة وخارجها. وبات تمددها الكبير في الأراضي السورية عبئًا على مكانة سلطة بشار، بنظر دول العالم، وفي المقدمة منها أميركا. فهل يتحمل النظام مسؤولية هذا العبء، بالتشبث بالوجود الإيراني، أم أنه سيضطر إلى ولوج مسار آخر يبعده عن التهديد، إن قام بتحجيم الوجود الإيراني، وتساوق مع الاستغناء عن دور إيران في سورية، ليستمد بعض الأمل في تثبيت سلطته في المناطق التي يسيطر عليها، ومحاولة توسيعها برعاية دولية تفرض ترتيبات داخلية ضد إرادة السوريين، أي إعادة تأهيل نفسه بحاضنة دولية وإقليمية، بعد إنهاء الدور الإيراني. ربما تراود النظام رغبة من هذا القبيل، لكن هل في استطاعته تحمل مسؤولية التصادم مع الوجود الإيراني وملحقاته داخل سورية؟ وهل ستسلّم طهران برغبة سلطةٍ، ما كانت لتبقى وتستمر من دون دخولها المعركة إلى جانبها، منذ اليوم الأول لثورة السوريين؟ وربما ستكون المعضلة الأصعب لسلطة الطاغية تتمحور حول العلاقة مع إيران، بعد انتهاء (داعش).

الاستحقاق الثاني يتعلق بالدور الروسي في سورية، في مرحلة ما بعد (داعش). لقد استخدمت موسكو فزاعة “إرهاب داعش”؛ لتسحق عددًا من المواقع المتمردة على السلطة، ولتدعم سياسيًا ودبلوماسيًا سياسة الطاغية، في كل نشاطها وبمواظبة لم يسبق لها مثيل. غير أن الإقرار الروسي بأن لا حلَّ عسكريًا للصراع في سورية، يترتب عليه الدخول في مسارات جديدة لخلق التوازن في علاقاتها الدولية؛ وهنا ستواجه روسيا أزمتها من جراء علاقتها مع طهران في الصراع بسورية وعليها، ولن يكون سهلًا عليها احتضان إيران “المنبوذة” دوليًا وإقليميًا، خصوصًا أن روسيا أقرت مع واشنطن أن لا حلَّ عسكريًا في سورية. وكل محاولات موسكو لتحييد مؤتمر جنيف عن مداولات الحل السياسي فشلت، وإن نجحت جزئيًا بتسليط الأنظار على أستانا ثم سوتشي.

الاستحقاق الثالث، الذي لا يقل أهمية، هو الوضع الداخلي في سورية، فعندما تتراجع الأعمال العسكرية، وتتجه الأنظار نحو المخرج السياسي؛ ستنشأ اصطفافات داخلية جديدة، لا أثر فيها لـ (داعش) كفزاعة، وستطرح في وجه السلطة كل قضايا الحياة التي دمرتها الحرب، ولن يكون بمقدور السلطة الإجابة عليها، ولا تقديم الحلول التي تحتاج إليها البلاد.

خلاصة الأمر أن سلطة بشار ستواجه مأزقها المحتوم بعد انتهاء (داعش)، وغالبًا لن تكون قادرة على إدارة أزماتها، لتضمن استمرارها متحكمة بوضع سورية.


مصطفى الولي


المصدر
جيرون