عبد الله يشعر بغصة في حلقومه



في آخر خروج له، وبعد إقامته التي تطاولت إلى عشرة أيام خارج القبر، لم يستطع بعدها الرجوع، فحجمه كان قد ازداد بشكل واضح، وبات من المستحيل أن يدخل من البوابة التي اعتاد الخروج منها، كلما وجد الظرف مواتيًا… حاول جاهدًا لكن بلا جدوى، ولما قطع أمله تمامًا؛ رجع إلى المدينة التي كان باعها، فلم تستقبله، ولم تعترف به، بعد أن صار أمرها إلى سواه… وجد نفسه الحجاجُ حائرًا، فلا هو قادر أن يعود إلى حيث كان، ولا هو قادر أن يبقى حيث يكون، ولا هو قادر أن يختفي، ولا قادر أن يبقى على قيد الظهور، فقرر أن يلجأ إلى المسجد الذي طالما كان له معه تاريخ طويل، بيد أن المسجد هذه المرة -أيضًا- رفضه ورفض دخوله إليه، وقال له: لم نعد نحتمل الخطب التي تهدد علانية بقطع الرؤوس، ففهم الحجاج أنّ هذا الكلام هو لغة من لغات الحاكم الجديد، فسكت! ولم يتبقّ أمامه إلاّ حل وحيد: أن يستسلم للجلوس جوار حائط المسجد على الرصيف منتظرًا إحدى ختلات التاريخ. وهكذا، وبالتدريج البطيء تحول إلى متسول (كما ورد في سيرة عبد الله الرجل الذي نجح في العثور على رأسه، بعد أن أطاح به الحجاج ذات حين في إحدى نوبات جنون العظمة).

كان عبد الله قد نجح في إعادة رأسه إليه، بعد رحلة شاقة من البحث والسعي والهرولة، وتقليب صفحات الأقاليم والجبال والسهول، والقراءة والكتابة والسهر والتفكير، وكان قد حصل في الوقت ذاته على بعض حقوقه المدنية، كمواطن يعيش من عمله في دائرة النفوس. وفجأة تذكّر عبد الله أنه منذ مدة طويلة لم يمرّ بالمسجد الكبير، وتذكّر أنه رأى الحجاج هناك آخر مرة، منذ دهر، بعد أن آل إلى متسوّل بهيئة رجل درويش، فقرر مباشرة أن يذهب إلى هناك، عسى أن يرى ماذا يمكن أن يكون حلّ بذلك الجبار العنيد.

في الطريق، جعل عبد الله يفكّر كي لا يشعر بالملل من طول الطريق، وقال في نفسه: فعلًا الحجاج نال عقابه الذي يستحق، من جراء ما قدّمت يداه يوم كان واليًا لا تنزل كلمته إلى أرض! وفكّر عبد الله أنّ الوالي كلما كان طاغيةً أكثر؛ تحولت كلماته إلى أفعال مباشرة، يا للعجب! يكاد إذا ما قال للشيء “كن”؛ أن يكون! وقال في نفسه أيضًا: لو أن الله سبحانه وتعالى يفعل بكل الطغاة ما فعله بالحجاج، لما كان تجرّأ والٍ ولا حاكم على التمادي في تقطيع الرؤوس، ثم فكر عبد الله أنه سبحانه وتعالى لم يفعل، ربما لعلة لا يحيط بها عقله الصغير، وقال في نفسه أيضًا: من يدري! قد يكون سبحانه وتعالى ترك من زمان أمور الناس للناس. لكن عقل عبد الله تجرّأ على تساؤل غريب: ترى أيهما أحبّ إلى الله وأقرب؟ الحكام أم الجماهير؟ فأجاب: أكيد الجماهير! لكنه عاد فتساءل: عجيب! لماذا إذن يبقى دائمًا على الحياد! ويتركها كالنعاج على مرمى أنياب الذئاب؟ لم يستطع عقل عبد الله أن يستوعب حكمة الحياد، ومن يدري! ربما لم يقتنع بها! وانتبه إلى أنه تجرّأ هذه المرة على التمادي في التفكير، وتجرّأ حتى على طرح الأسئلة التي تحيره، لكنه علل ذلك بحصوله على بعض حقوقه، كمواطن شريف تمكن أخيرًا من أن يعيد رأسه إليه!

أخيرًا وصل عبد الله منتصف المدينة وقصد المسجد مباشرة، وما إن بان على مبعدة منه حتى سبقته عيناه تبحثان، رأى الحجاج ما زال حيث هو، فاقترب إلى أن بات أمامه، ولحظة هم بالكلام، انتبه أن الرجل الجالس يشبه الحجاج لكنه ليس هو. وقف مترددًا تفضحه عيناه، فبادره الرجل الجالس:

–  ما بالك، يا أخا العرب! كأنك تبحث عن أحد، ووجدت أحدًا آخر!

–  تمامًا فأنا في الحقيقة…

– لا تكمل، لا تكمل، من تبحث عنه دفناه، بعد أن مات فقعًا!

–  فقعتموه ودفنتموه؟

–   هو فقع من تلقاء نفسه، فدفنّاه!

– هل مات هذه المرة تمامًا؟

– هذه المرة مات إلى الأبد!

– يعني هل نستطيع أن نطمئنّ أنه نام إلى غير قومة؟

– هو وزمنه أيضًا.

– وقطع الرؤوس ولّى أيضًا؟

–  والألسن والأرزاق والطرق، وكل ما هو من عائلة القطع!

– معقول ما تقول، يا أخا العرب، كل هذا لمجرد أنكم دفنتم ذلك المسكين؟

– لم يعد أمام الجماهير غير القليل حتى تشرق عليها شمس جديدة، لتصحو على زمن جديد وعالم جديد.

–  دفعة واحدة؟

– تستطيع أن تقول على دفعات متتالية، لكن بشكل عام، اطمئنّ، فأنت الآن بدأت تدخل زمن سيادة العمال والفلاحين والفقراء والأوادم والدراويش والتقدم والاشتراكية.

– ومن فعل كل هذه المعجزات؟

– ومن غيرها؟

– من تعني؟

– الثورة!

– أي ثورة! فهم كثر.

– ثورة الجماهير والكادحات والكادحين.

– والمدينة، ماذا فعلتم بها؟

– المدينة تحت رعاية وحماية “المجلس الثوري الجديد”.

– هل المجلس الثوري الجديد هو الذي حلّ محل الحجاج إذن؟

– إياك أن تذكر اسم الحجاج على لسانك مرة أخرى! مجلس الثورة مختلف تمامًا، وهو الذي سيرعى شؤون المدينة، ويحمي البلاد من وسوسات الموسوسين!

– والمجلس الثوري أليس له رئيس؟

– طبعًا، له رئيس.

– ومن يكون هذا الرئيس؟

– لا يهم الاسم، كل فترة سيكون هناك اسم جديد!

– المهم أن تكون المدينة بين أيادي حكيمة!

– حكيمة حكيمة! أدامها الله ورعاها.. قل: آمين يا رب العالمين!

وحدّقت عينا الرجل الغريب في عيني عبد الله، كأنهما تريدان أن تصلا مواطن الأسرار، فقال عبد الله مباشرة:

– آمين آمين.. يا ربّ العالمين!

لكنه لم يعرف لماذا شعر بغصّة في حلقومه، ووخزة حادّة في نقطة ارتكاز رأسه بين كتفيه. مع هذا أدار ظهره، ومشى عائدًا من حيث جاء.


عبد الحميد يونس


المصدر
جيرون