العلاقات السريعة والأزمة الأخلاقية



إن كانت الأخلاق من يحكم العلاقات، بالمعنى المطلق للوجود الإنساني؛ فما هي القوانين؟ وهل ثمة قوانين كونية تحيلنا إلى نمط أخلاقي إنساني، في ظل السرعة التي تعيشها البشرية؟

الأخلاق هي نحت تاريخي، اكتسبه الإنسان من تجربته وتعامله مع الآخر باختلاف هذا الآخر. فالقانون الأخلاقي، عند كانط، يجب أن يُبنى على ضرورة مطلقة، وهذا يعني ألا يكون للطبيعة البشرية دخل في مبدأ الإكراه، فالتجربة لا يمكن أن تحقق قانونًا أخلاقيًا مطلقًا، وإنّما الفلسفة الأخلاقية تستند إلى العقل الخالص، والذي بِحكمه يُعطي قوانينًا قبلية. أي إن الأخلاق قانون.

حسب كونفوشيوس “إن فاعلية العلاقات متضمنة في صلب نظام الطبيعة لا من خارجها، ويقابل هذا النظام الطبيعي عنده، نظام آخر على المستوى الإنساني، في المجتمع هو القانون الأخلاقي”. أي إن الأخلاق مكتسب تأملي؛ فالعلاقات الإنسانية مبنية على الأخلاق، وهذه الأخلاق مستوحاة من العلاقات مع الطبيعة، والطبيعة لا تحمل أخلاقًا، إنما هي اكتساب من العلاقة التأملية مع الطبيعة. وهي نتاج عقلي.

هذا ما تحاول الأنا المنهكة إثباته، من وراء شاشة الإنترنت، فالعالم ضمن الحركة السريعة للإنترنت، وفوضى السرعة واللهث وراء “السوشال ميديا”، بات لا يحكمه قانون سوى المظاهر العامة، المظاهر المبنية على ما يصدّره الآخر عن ذاته أو كما يتمناها، حتى إنّ الإنسان أقصى ذاتَه العميقة؛ ليجلس أمام شاشة مربعة يحلّ مشكلاته، أو يعزز ذاته من خلال الدعم الإلكتروني.

نحن هنا لا ننفي الدور الإيجابي لـ “السوشال ميديا”، لكنا نحاول فهم العلاقات السريعة المبنية مع (أنا) آخر وهمية، تخضع لنسبة كبيرة من إسقاط مشاعر وانطباعات واختلاجات نفسية، والتي هي الأنا المحسوسة والمعروفة على أرض الواقع، بينما الأنا الثانية المقابلة وراء الشاشة هي أنا آخر وهمية، (أنا إلكترونية)، علمًا أنّ الشخصيتين تتبادلان الأدوار.

الأخلاق بحث للإنسان عن (أناه)، من خلال الآخر، وقراءة انطباعاته الجسدية والفكرية والروحية، والمشاعر التي يمكن أن يتلقاها وجهًا لوجه، أي هي تفاصيل تبادل بالعلاقات تُنتج الأخلاق، لكن ما ترنو إليه البشرية الآن، هو إقصاء الآخر، دون وعي بالعلاقة الأخلاقية، وبالتالي هو تعزيز الأنا من خلال تقنيع الآخر، فمعرفة الذات لم تعد تبنى على الاختلاف والعلاقة المتبادلة، وإنما على إسقاط الأنا، وتلبيس الآخر بأناه، حتى يصبح قناعه، بمعنى أن الأنا تبث أناها في كل الآخر؛ حتى تتلبّسه، ويصير هو أناها المقلد. ويظهر هذا الإقصاء جليًّا، في لحظة “البلوك”، في “السوشال ميديا” التي نقوم بها كردة فعل على إقصاء الآخر، وكأنما العلاقات الإنسانية تنتهي بطريقة، نتمنى فيها إلغاء الآخر من الوجود.

في الحركة السريعة، كل ما هو ذو خصوصية وبه حياء سابقًا، بات مكشوفًا وواضحًا ومشاركًا، وليس ثمة قيود عليه، بل على العكس، صرنا نزور كل غرفة من غرف العالم، في أقل من دقائق عبر مشهد فيديو، كقرية صغيرة، لكن تزداد بها الأنانية، وتكريس الذات من خلال إقصاء للآخر دون وعي، أو ربما بوعي، فـ الأنا ضمن الإنترنت أصبحت محركًا آخر عوضًا عن التلفزيون، تعمل على بث إشارات سيطرة فكرية، لا تخضع لمنطق ولا تخضع لمحاكمة، ونحن هنا أمام باب جديد، لنقض المفاهيم الأخلاقية السائدة، فبات لكل مرء معاييره الخاصة، في شكل العلاقة الأخلاقية، والتي تعتمد على حصد الشهرة وإبقاء الذات، من خلال إثبات حالة التفوق والبطولة.

لكن ما يحدث الآن هو ارتباط الإنسان ومشاعره ضمن مربع أو مستطيل، وتضخيم هذه المشاعر للعيش في بؤرة ضيقة، تتسع لكل هذا الوهم الموجود في العالم. تظهر من خلال هذي العلاقات أمراض الملكية والانتظار والمراقبة، وإفشاء خصوصية الآخر، فنحن إزاء الوهم، الوهم بالمعنى العريض للعلاقات البشرية، وتحوّل الأخلاق، وعملية التحوّل هي عملية تبديل للمادة ضمن شروط التفاعلات السريعة التي تلمّع كل شيء، بهدف الصيد السريع، للاستهلاك السريع، وللتسويق السريع، فيما يخص المشاعر الإنسانية التي باتت عرضة للتهديد والقنص والإقصاء.

هذا الأمر إن جعل العالم ينحو؛ فهو ينحو باتجاه الضحية والجلاد، إي إن العلاقات بدأت تأخذ شكل القناص الذي يبحث عن ضحيته، ويمارس كل أشكال السلطة الذاتية لتغذية ذاته من خلالها، أو شكل الضحية التي تنتظر جلادها، ليوصلها بقليل من الاهتمام والرعاية، أو حتى لتعزيز ذاتها، بات العالم يراقب بعضه البعض، لكن كل حسب مصلحته الخاصة. غزوات سريعة، منهم من ينال مجد الغارة، ومنهم من ينال فتات الانتصار، ومنهم من يراقب وينتظر ليحين دور فريسته الجديدة.

لم يعد العالم يشي بشيء، بات الجميع وشاية مفضوحة، لكن لا فضيحة فيها، بل مصالح سريعة، تنتهي دونما ملاحظة أن الإنسان بدأ يضمحل ويبتعد عن المراقبة للسلوكيات التي اكتسبها من الطبيعة والتي بدورها أكسبته أخلاقه، وهذا يعني أن ما يحتفظ به البشر الآن من أخلاق هو ما تطوّر ليناسب زمن القنص السريع للعلاقات والمصلحة، فالإنسانية على عتبة الخطر والتهديد، وربما الانقراض.

نحن إزاء علاقات مبنية على تعزيز الذات من خلال التشجيع والاهتمام، وليس على تعزيز الذات من خلال نتاجها الإنساني، فتصبح الأنا تقبل بأي شيء لتعزز وجودها، فما هو موجود في الواقع ضمنيًا مرفوض في العلاقات الإلكترونية، وبالعكس، ما هو موجود بالعلاقات الإلكترونية، مرفوض بالعلاقات الواقعية، خاصة أن العلاقات الإلكترونية لم تخضع بعد لقوانين ناظمة، علمًا أن هذي القوانين، تصب نهاية في مصلحة ذاتية، إن كانت لمنظمة أو لفرد.

نحن لا نخرج من العلاقات المبنية على المصلحة الشخصية إلا لنصبّ ببوتقتها، لكن بصيغ جديدة. ولقد أكدّ­ كانط على التمييز بين ميتافيزيقيا الطبيعة، وميتافيزيقيا الأخلاق، ثمة فصل بين الأخلاق والتجربة. لكنّ الأخلاق مكتسب تأملي، وما ذهب إليه كونفوشيوس، بأن المراقبة للطبيعة تظهر الأخلاق كنظام، مكتسب منها، فلم يولد الإنسان بأخلاقه لكن من احتكاكه مع الطبيعة، تولدت فكرة الأخلاق. وهذا يحيلنا إلى أن الأخلاق قوانين، والقانون حاكم، ضمن تجسيد العقل لشرعية هذه العلاقة. فهي شرعية لصالح الأنا، من أجل امتدادها واستمرارها.


خلود شرف


المصدر
جيرون