ماء الياقوت ينام في الأيقونة



كما هي الحال عند بودلير، في تعليق ميشيل بوتور حيث قال: نحن نشعر أننا اقتربنا كثيرًا، أقرب مما يمكن، إلى ما هو وحده الحقيقي، إلى ما هو وحده يهمنا ويعنينا في هذه الحياة.

كنا كذلك، قد قاربنا في قراءة أولية ديوان الشاعر عبد القادر الحصني (ينام في الأيقونة). عبد القادر الذي تفرغ للشعر، كما لم يفعل أحد غيره؛ فلامست قصائده سقف العالم. منذ أن صدرت مجموعته الأولى (بالنار على جسد غيمة) 1976 وهو يربح رهان الشعر، ويخسر هباء اللهاث، الذي يتسابق عليه صغار الكتبة. يعتبر الحصني بنّاء المشاهد الحركية في القصيدة العربية، ومهندس الجدل بين الفكرة والخيال، فترى الخيال يرفع الفكرة لتصبح صورة، وترى الفكرة كيف تُوظف في القصيدة لتصبح مشهدًا. وما بينهما تنداح التفاصيل، وتبث في القصيدة روح الحياة.

“على باب بيت صديقي وقفت

وعلقت كفي على جرس الباب..

لكن نبضًا بأنملتي كان أفتر من أن يثير بأسلاكه شهوة للرنين”

ذلك الأسلوب الذي تقمص موضوعه، هو الذي استدرجنا إلى القراءة أولًا، والى التأمل أخيرًا، وما بينهما كانت الدهشة عنوان وجودنا بين يديه، فالدراما غالبًا ما تكون أحد مرتكزات الجمال، في قصائد الحصني:

لو يفتح الباب، قال الحنين / وأطرقت..

ماذا لو انفتح الباب عنهم، فألفيتهم آخرين؟

تعال أريك على الباب صمتَين: صمتًا يرن وصمتًا يرين.

هذا الطرح الرهيف هو في الحقيقة خلاصة أسئلة، والمتعطش الى ظمأ السؤال محروم من فيض الجواب، ولكنه ليس محرومًا من فيض الشعر.

كأن الكلام انتهى

كأن المفاتيح ضوء غشيمٌ

وأقفالها السود ليست لها

كأن الذي لم يقل بعدُ

قد قيل من قبل.

حتى تجيء السوابق من كل قول

وخيل

وليل

فتلقى سواها من القول والخيل والليل

قد وصلت قبلها

يسلك الحصني دربَين للوصول الى القصيدة، وهذان المسلكان متوحدان ظاهريًا، مختلفان في بنيتيهما، جوانيًا. هذان المسلكان هما اللغة والإيقاع؛ لأن للإيقاع قراءة موسيقية لا تقل أهمية عن باقي القراءات، وإيقاع قصيدة الحصني محصن بثنائية صوفية:

لماذا لا أكون زمانك، وتكون مكاني.

فأحملك وتحملني.

من الخطأ هنا الانتهاء بإشارة استفهام، يجب التوقف عند إشارة التعجب المتضمنة في الوجود الثنائي شكلًا، المتوحد حقيقة. أما اللغة فإنها كذلك ليست اللغة المتعارف عليها، وإن كانت تبدو كذلك، فالحصني يستعمل مفردات اللغة لصياغة مؤامرة لغوية موازية لتآمر الحالة الشعرية على الشاعر:

حين أيقن أني بمنقطع من خطاي إليه رثى لي/ ورقّ لحالي

وأومى لبعض مراياه أن تلبس الأمر بين رؤاي وبين رؤاه..

فأنسى الذي شفني من هواه/ وينقطع الحبل بين المراد وبين المريد.

طريق الحصني إلى الحداثة، طريق خاص به وحده. تستند حداثة الحصني إلى إرث هائل من الشعر العربي، لغته، وأوزانه، وميراثه اللغوي المكين. أرث أخذه الحصني على محمل الجد، وأعاد إليه الاعتبار.

لا بد من شجر كثيف في الظلام

ليكون بيتٌ في البعيد

سراجه كفٌّ من الحناء

تخفق خلف نافذةٍ

تشرّد في مدارات الأساور

ما تراكم من تفاصيل النهار

الى المدامْ

تلك الخصوبة فائقة الوضوح في قصائد الحصني، فالصور المتلاحقة، ليست جزرًا متناثرة، كل منها تمسك بطرف سابقتها، وتمد يدًا للصورة التي تليها.

نديمك، إن نمت يا سيدي، لا ينام

أترضى له أن يموت قليلًا، ويخبو في فيه كنز الكلام؟

وكأن كل شيء قد أنجز، ولم يبق للشاعر إلا التعبير عنه..

لأنني في مرة واحدة/ رأيت كل منظر رأيت.

بهذه الخلاصة يواجه الموجود عيانًا، ليمنح نفسه فرصة معاينة ما وراء النصف الفارغ من كأس الوجود.

لغة الحصني في تماس مباشر مع الحياة، مع الخصوصية الفردية، مع نبرة الحب الخافتة، ومع الشعر. الشعر بمعناه ومبناه، الشعر بشكله ومضمونه، الشعر كحالة، وليس صفة.

ما يلاحظ على ديواني عبد القادر الحصني: (ماء الياقوت) و(ينام في الأيقونة) ذلك التفاوت بين القصائد، فهي ليست نسخًا مكرورة، فالحصني أبعد ما يكون عن التكرار، فطبيعة التجربة متحولة الأطوار، وهذا ما خلّانا نلاحظ الاختلاف والتباين في ديوانيه، وما دفعنا إلى تفضيل قصيدة على قصيدة، علمًا أن بعض القصائد لا يوجد ما يربطها إلى الشاعر الذي عرفناه بغيرها إلا أنها موجودة في ديوانه كالقصيدة الموسومة بـ (ماذا تريد القصيدة) في ديوانه (ماء الياقوت)، وقصيدته (نم قرير العين) المتضمنة في ديوانه، (ينام في الأيقونة).

بقي أن نقول إن هذه ليست دراسة، فلقد مرّ بنا الفرق ذاهبًا إلى جمعه، ومرّ بنا الجمع ذاهبًا إلى فرقه، وبين المرورين مرّت قراءتنا، على أمل أن تنير شمعة في ليل الإبداع الشعري العربي الحديث.. قبل أن تفرغ الساحة من فرسانها القلائل.


إبراهيم الزيدي


المصدر
جيرون