نوستالجيا



بدأ استخدام مفهوم “نوستالجيا” في القرن السادس عشر، كحالة وصفية تعبّر عن اشتياق الأفراد إلى وطنهم وأسرهم، أو المريض إلى بيته ورغبته في العودة إليه، مع خشيته من عدم تمكنه من ذلك نهائيًا؛ فينعكس عليه ذلك الشعور بألم داخلي وكآبة، تأخذ طابعًا مرضيًا. ويعود أصل الكلمة إلى اللغة اليونانية القديمة.

توسع استخدام المفهوم مع الزمن، ليعني “الحنين إلى الماضي”؛ فأصبح يشمل اشتياقًا عاطفيًا، يتعلق بطبيعة الحياة والعلاقات والسلوكيات التي كانت سائدة، مع كافة الأدوات التي أحاطت بالفرد وبالمجتمع، وهي محاولة من الأشخاص لتصوير الماضي، وكأنه النموذج المثالي الذي ضاع، ويجب السعي لإحيائه من جديد.

إن الحنين إلى الماضي، كإحساس وجداني عاطفي، لإبراز بعض المعاني السامية التي تربط الإنسان ببيئته وتراثه الجمالي، للاستناد عليه في تطوير حاضره وبناء مستقبله، يختلف عن الحنين الذي يدفع إلى الغوص العميق في تفاصيل الماضي والعيش في أوهامه، لتصبح ظاهرة تكبل الإنسان والمجتمع، وبالتالي الوقوع في فخ العزلة عن الحاضر، والابتعاد عن مواجهة مشكلاته أو استكشاف جماليات حاضره، والتمتع بها والتأمل من خلال نظرة إيجابية أو نقدية فاعلة.

إن استحضار الثقافة القديمة وإنجازات السلف، في كل مناسبة، وطرح شعارات مرتبطة بذلك، وتمجيدها لجعلها أسلوب حياة، من باب “أجدادنا فعلوا”، وتعطيل التفكير في الراهن والمستقبل، لتصبح حتى الأساطير عبارة عن مستندات تلجأ إليها المجتمعات، هو ما يعوق تطور أساليب ومناهج الحياة، وهو ما توصف به مجتمعاتنا شديدة الحنين والارتباط العاطفي بالماضي، وهي تنتقد الحاضر، قياسًا إلى ذلك الإرث الذي لم تعشه، إنما سمعت أو قرأت عنه، حتى لو كانت مصادره غير موثوقة، لكنه يريحها من عبء اللحظة، وما تحويه من إشكالات أو مهمات، أو إنجازات يجب متابعتها للمساهمة في بناء حضارة العصر المعاش.

من جانب آخر، تذكر الأفراد المحدود، ضمن إطار أو سياق واضح، لأسرهم وبيوتهم وطفولتهم ودفء بعض العلاقات التي كانت تحيط بهم، وتأمّل صورهم القديمة ومذكراتهم وإنعاش الذاكرة بتلك اللحظات الجميلة والحميمة، واستحضار الذكريات، إن كانت للأماكن أو الأشخاص ومقاعد الدراسة والطفولة أو العمل وغيرها، هي حالة طبيعية ومريحة للنفس البشرية، وملهمة في كثير من الأحيان، خصوصًا إن كان الإنسان يعيش في وحدة لأي سبب أو ظرف، كونها تعيد التوازن للنفس وللسلوك، لكن الغوص فيها وجعلها قضبان سجن والدخول للإقامة فيه هو الحالة المَرضية.

أغلب الشعوب التي لم تساهم الحكومات في إتاحة المجال لأبنائها، لتتفاعل مع بعضها ومع الحاضر بطريقة إيجابية، هي التي تنجذب إلى الماضي وترهن نفسها له، وقد نرى أن بعض النشاطات السياسية تستثمر في ذلك، وتستند إلى الأصولية الفكرية، للذهاب إلى الماضي وأخذ المجتمع معها بكل نشاطاته ونمط تفكيره، ومن المرجح أنها أكثر ما في الـ (نوستالجيا) من خطورة، إذا تفاقمت وأصبحت مؤثرة وتعددت أدواتها.

مع تطور أساليب الإعلام ونقل الصورة وأنماط الفن؛ ازداد البحث عن أفكار مرتبطة بالماضي، ومعالجتها لعرضها كمسرحيات أو أفلام أو مسلسلات أو برامج مقارنة، وأصبحت في بعض الدول أداة تستخدمها السلطات؛ لإبعاد الناس عن واقعهم، وتقديم وجبة معنوية لهم، لإرضاء أحاسيسهم عن طريق طرح بطولات وهمية، وعادات وتقاليد تحولها إلى مقدسات، تخدم السلطات نفسها، وتُغيّب المجتمع عن حاضره، كما فعل نظام الأسد في العقود الماضية، مع تركيز الدراما على قصص وأفكار لا علاقة لها بالحاضر، واصطنعت للعديد من المسلسلات بيئة تناسبها، رافقتها بضخامة بالدعاية، وإنفاق في الأموال، للحصول على حجم متابعة كبير، حصدت به نتائج مهمة، عند المتلقي الذي استسهل الهروب من الواقع عبرها، وساعد ذلك في تكبيل طموح الأفراد والمجتمعات؛ كون عقارب الزمن لا تعود إلى الوراء، وأصحاب القرار يمنعونها من الدوران إلى الأمام.


جيرون


المصدر
جيرون