الجهّال بالتاريخ وشيء من الذكريات



ليس أشقّ على التاريخ من أن يرى جهلةً يقودونه، والجاهل بالتاريخ، وبأنه سيرورة، يرتكب حماقتين قاتلتين: الأولى العماء عن رؤية الممكن التاريخي، والثانية: محاربة الممكن، إن ظهرت بوادره، وأعلن عن نفسه بدلالات بسيطة، بسبب تعارض الممكن مع اللاعقلانية التي توفر له -كما يظن- الاستدامة؛ فيعمل على إعدام الممكن، فيخسر الممكن بوصفه المجرى الطبيعي للتاريخ.

أقول هذا، وأنا أرى ثلاث دول تجتمع في سوتشي، لتطرح على السوريين أكثر ما كنا قد طرحنا قبل ستة أعوام، ورفضَه الجهل. فما إن قامت الثورة التونسية حتى راح السوريون -شعبًا وأجهزة حكم- يتساءلون: ترى هل ستهب علينا رياح تونس؟ ومع اندلاع الثورة المصرية؛ بات واضحًا أن المنطقة كلها على وشك البركان.

سألتني المذيعة: دكتور، كيف تُفسّر الحدث التونسي؟ أجبتها بالحرف، والإجابة مسجلة: كل مجتمع يعيش حال استبداد وفساد وفقر سينفجر حتمًا، أما متى سينفجر، وكيف، فأنا لا أعرف.

أذكر بأني زرتُ نائبة رئيس الجمهورية، قبل حادثة أطفال درعا، وقلت لها بالحرف ما يأتي: دكتورة، اذهبي إلى بشار وقولي له: “إن التاريخ يقرع باب سورية ليدخل، فليفتحْ له الباب. فإنه إن أغلق الباب في وجهه؛ سيعود ليقرعه مرة أخرى، وإن عاد وأغلق الباب في وجهه؛ فإنه في المرة الثالثة سيرفس الباب برجليه، ويدخل دون أن يُفكّر، وسيحطم كل ما يراه في طريقه، ولن يُبقي من أثاث البيت شيئًا، وسيجلس في المكان الذي يريده”.

لم يمض زمن طويل، حتى انفجرت الثورة السورية الشعبية السلمية المتوقعة، وسمحت البدايات بنوع من حرية القول، وراح النقاش يجري في العلن هذه المرة.

على صفحات جريدة (السفير)، كتبنا مقالًا بعنوان “عودة إلى فكرة القميص” بتاريخ 2011-07-09 (قضايا وآراء)، وأهم ما أتينا على طرحه في ذلك المقال هو الآتي:

“سورية الآن، أي منذ 1963 وحتى 2011، لم يتغيّر قميصها أبدًا، بل راحت ترقعه ترقيعًا. فسورية البلد المتقدم الذي شهد النظام الديمقراطي البرلماني منذ الاستقلال، وشهد الانقلابات العسكرية المتوالية، وشهد قيام الأحزاب السياسية في مرحلة مبكرة من النهضة العربية، سورية هذه التي شعت على العرب بشعاراتها حملت البعث إلى السلطة، بعد الانفصال الذي استأثر بها، بعد القضاء على حلفائه من الناصريين والقوميين العرب.

البعث حزب أيديولوجي، ذو شعارات معروفة، ينتمي إلى مرحلة حركة التحرر العربية، والمناخ العام لحركة التحرر العالمية، فكان من الطبيعي أن يكون نموذجه الدول الاشتراكية ذات الأيديولوجيات الشيوعية.

لقد كان استئثار حزب واحد وحيد في السلطة ظاهرة مقبولة ومبررة تاريخيًا. ففي الوطن العربي أسس عبد الناصر الاتحاد الاشتراكي وحكم باسمه، وفي الجزائر حكمت جبهة التحرير الجزائرية، وفي تونس حكم الحزب الدستوري، وفي اليمن الجنوبي حكمت الجبهة القومية ثم الحزب الاشتراكي اليمني. وفي العراق حكم حزب البعث العربي الاشتراكي. وبالتالي لقد مضى، على حكم حزب البعث العربي الاشتراكي في سورية، ثمانية وأربعون عامًا.

كانت المرحلة الأولى مرحلة المجلس الوطني لقيادة الثورة، ومجلس الرئاسة فيما بعد التي استمرت حتى انقلاب 1966، الذي قاده صلاح جديد مدعومًا بيسار البعث آنذاك. لقد شهدت هذه المرحلة تثبيت سلطة البعث، عبر مواجهة عسكرية حزبية (حرس قومي) مع الناصريين و”الإخوان المسلمين”.

منذ عام 1966 وحتى انقلاب 1970 بقيادة الرئيس حافظ الأسد؛ شهدت سورية حكمًا حزبيًا شديد الصرامة، حيث صار القميص البعثي الجديد حاكمًا لكل مجالات الحياة، في مرحلة ما زالت فيها سورية تحتفظ بالنخب التي ظهرت في أثناء الاستقلال وقبله وبعده. وهي نخب ورثت أساسًا ثقافيًا ديمقراطيا. فقوة الحزب الأخلاقية -آنذاك- جعلت القميص من حيث اللون ناصعًا أولًا، وحالت دون استباحة الأمن لحياة الناس ثانيًا، وكان الاقتصاد السوري ملبيًا حاجات الناس، وبخاصة أن لا ظاهرة فساد عامة.

بعد عام 1970، جرى ترقيع القميص بألوان من القماش متشابهة. فالدستور الذي ينص على أن حزب البعث هو قائد للدولة والمجتمع صار دائمًا. ونشأت جبهة موحدة من أحزاب “تقدمية – ثورية”، وعوضًا عن المجلس الوطني لقيادة الثورة، نشأ مجلس الشعب الذي يضم خمسين بالمئة من العمال والفلاحين، وأكثر من خمسين بالمئة من أحزاب البعث وأحزاب الجبهة، وعددًا من المستقلين الذين يختارون بعناية من قبل السلطة ذاتها، وصار إلى إحداث قانون الإدارة المحلية.
هذا القميص المرقع -مع كل ما اعتراه من مشكلات- ظل هو هو، حتى هذه اللحظة.
لقد تطور جسد المجتمع السوري، تطورت حاجات الفئات الوسطى وما دون الوسطى، لقد زال الاتحاد السوفييتي والمنظومة الاشتراكية ونظمها السياسية، وعادت إلى الحياة الديمقراطية. لقد فقد البعث الأساس الأيديولوجي، لتبرير قميصه الذي صار ضيقًا إلى أبعد الحدود.

فالحزب الذي ينص الدستور على أنه قائد الدولة والمجتمع، والذي كان قبل 1970 قابضًا عبر فروعه وشعبه وقيادته القطرية وقياداته القومية، فقَد الجزء الأكبر من سلطته المباشرة لمصلحة سلطة رئيس الجمهورية. وسلطة رئيس الجمهورية استندت إلى قوة أمنية، ظلت تتنامى حتى وصلت، بعد الانتصار على “الإخوان المسلمين”، إلى حد التدخل في أدق شؤون البلاد والعباد.

لقد راح القميص يضيق على جسد المجتمع السوري، وامتلأت السجون بالمعارضين، ومنعت حالة الطوارئ أي مظهر للمعارضة. لقد صار الحزب ومجلس الشعب والجبهة الوطنية التقدمية مظاهر فولكلورية.

أدرك الشاب بشار الأسد -قبل أن يصبح رئيسًا- مشكلات هذا القميص الضيق، ولهذا، فإنه ما إن تولى الحكم حتى طرح إصلاح القميص وتطويره وتحديثه، ولأسباب أجهلها، فإن ربيع دمشق الذي ولد من وحي خطاب القسم، بوصفه محاولة لتوسيع القميص، ليصير مناسبًا لجسد المجتمع، سرعان ما قضي عليه قمعًا واعتقل العدد الأكبر من رموزه.

لكن حالة الفساد التي استشرت داخل السلطة وفي المجتمع، وزيادة الفقر واستشراس أجهزة الأمن إلى الحد الذي لم يعد لجهاز الشرطة المدني أي قيمة ومسؤولية وعمل، جعلت القميص أضيق بكثير من جسد المجتمع، وراح يتمزق من دون أن يلتفت إلى عملية التمزق أحد سوى معارضة، لا حول لها ولا قوة، ونقد بسيط من هنا وهناك. وما ساهم في عملية تمزيق القميص أنّ “الإصلاح الاقتصادي”، بالعودة إلى اقتصاد السوق والحد من تدخل الدولة من دون إصلاح سياسي، زاد من حالات الفقر؛ وهكذا اكتملت دائرة أسباب تمزق القميص الذي لم يعد أحد قادرًا على إلباسه للمجتمع الذي يعيش فقرًا وفسادًا وقمعًا.

جاء المناخ الجديد -الذي يعم الوطن العربي- لتدخل سورية في حقله. إن خياطة قميص جديد اليوم في سورية -ليصير هذا القميص على قد المجتمع- لا يمكن أن تتم بنوع القماش القديم.
ولهذا، فالمسألة لم تعد وقفًا على إلغاء المادة الثامنة من الدستور التي تقول إن: الحزب قائد الدولة والمجتمع، بل لا بد من إلغاء الدستور، وصياغة دستور جديد يتطابق مع جسد المجتمع الجديد.
إن القلب ليتقطر حزنًا على الذين قضوا، وإن الوفاء لكل الدماء التي سالت لا يكون إلا بمجتمع يؤكد -عبر نظامه السياسي وحياته المشتركة- السلم الأهلي. سورية الخالية من الأحقاد، سورية التي شفيت جراحها تمامًا، حتى لا يأتي من ينكؤها مرة أخرى، هي سورية المأمولة. لتكن الدماء وردًا شاميًا جوريًا يزهو به القميص السوري الجديد.

بقي أن أقول: نحن -أبناءَ بلاد الشام- سورية هي أمّنا، وستظل أمّنا إلى الأبد. وسيأتي يوم، لا محالة، تكون فيه دمشق عاصمة لبلاد الشام، فلا يأخذ علينا أحدٌ أننا نتدخل في شؤون سورية، حين نكتب عنها ونساهم في خلاصها.

وشيئًا فشيئًا صارت غرف الأساتذة في كلية الآداب مكانًا للحوارات، المتحفظة أحيانًا، إذا كان هناك من هو مع السلطة، والصريحة إذا خلت الغرفة مما يُظن بأنه من المخبرين.

أذكر بأن بشار الأسد قد ألّف لجنة من أربعة أفراد؛ للنظر في حل ما يجري وهم: نجاح العطار، فاروق الشرع، بثينة شعبان ومحمد ناصيف. وطلبت مني الدكتورة العطار، بحكم الصداقة، وضع مسودة مشروع خلاص. في اليوم التالي كان أمامها المشروع، بخط يدي الذي كتبته كالعادة بحبر قلمي الفاخر، وسرعان ما طُبع على الآلة الكاتبة، وأهم ما جاء في المشروع الذي قدمته هو:

1 – الدعوة لجمعية تأسيسية سورية، تضم خمسين عضوًا من المعارضة، وخمسين عضوًا من النظام، ويفتتح المؤتمر رئيس الجمهورية شخصيًا، لمناقشة الانتقال السياسي الديمقراطي في سورية، ويتضمن جدول أعماله: صياغة دستور جديد للبلاد، وإجراء انتخابات في ضوء ذلك.

2 – حل مجلس الشعب الحالي.

3 – قانون حرية الأحزاب.

4 – تأكيد الفصل بين عمل أجهزة الأمن والمجتمع، وبعث دور الشرطة والقضاء.

5 – إلغاء أحكام الطوارئ.

6 – تأميم شركتي الهاتف المحمول.

7 – إخلاء سبيل جميع السجناء السياسيين.

وحملت نائبة الرئيس المشروع وعرضته على الجميع.

لست في وارد سرد النقاشات التي جرت، والأخبار التي وردتني حول الورقة، وكانت في البداية إيجابية -كما قيل لي- لكن الجماعة الحاكمة قررت أن تستخدم القوة المسلحة والعنف، لسحق الثورة الشعبية؛ وحصل ما حصل.

بعد ست سنوات من الدمار والتشريد والقتل، بعد مقتل مئات الآلاف من شباب الساحل والداخل، وملايين الجرحى، بعد تنامي الأحقاد التي تحتاج إلى قرون كي تندمل؛ يجتمع رؤساء ثلاث دول، ليفرضوا على الجماعة الحاكمة، دون حضور رأسها، ما كان يمكن أن يُنجِزه هذا الرأس، وهو أقل بكثير مما يُطلب منه الآن، ويوفر على سورية جراح مأساتها التي هيهات لها أن تندمل. فِي كل الأحول، إن الشعب السوري، بعد كل ما حدث، لن يرضى بأقل من زوال هذه البنية المتخلفة الجاهلة بالتاريخ من الحكم، آجلًا أم عاجلًا.


أحمد برقاوي


المصدر
جيرون