الوجه والصورة



صورتي لا ترضيني، لست أنا هذا الذي في الصورة، ليست هذه ابتسامتي، ولا هذا وجهي ولا نظرتي. لا يتعلق الأمر بجمال الصورة من عدمه، بل يتعلق بتطابق الصورة مع صورتي عن نفسي، مع صورة وجهي في نفسي.. ثمة وشاح من الغربة يُلقى دائمًا، بيني وبين صورتي.

صور الطفولة المبكرة لا علاقة لها بموضوعي؛ لأنها صور ما قبل الوعي، هذه الصور تضيفها إلى سجلك الذاتي لاحقًا، وتلتصق بهذا السجل، بكل برود، كما يلتصق به تاريخ ومكان ولادتك. إنها ببساطة صور قديمة قالوا لك إنها صورك، فأضفتها إلى سجلك على زعم (وعي) الآخرين. لو وجدتها بمعزل عن الآخرين؛ لما عنت لك شيئًا، ولما أدرجتها في سجلك الشخصي، وتبنيتها وعرضتها لاحقًا على أطفالك، كي تقنعهم بما هو ثقيل على مخيلتهم، بأن الأب كان طفلًا ذات يوم.

بدأت القصة مع أول صورة واعية لي. الصورة الواعية هي أول صورة تنتظر أن تراها لترى وجهك الحالي، أي وجهك حينذاك، مطبوعًا على كرتونة. بالنسبة إليّ كانت صورتي الواعية الأولى، عند المصور “سيمون” في شارع هنانو في اللاذقية، وقد انتظرتها بشوق أسبوعًا كاملًا، وحين رأيتها؛ علمت أنني كنت أنتظر خيبة. لم أكرر النظر إلى الصورة، لأنها ليست أنا، وإن كانت صالحة لتسجيلي في الصف الأول الابتدائي. كنت أنتظر أن أرى وجهًا مختلفًا، ربما عينان أقل اتساعًا وابتسامة أهدأ ووجهًا لا يميل إلى الطول، لا أدري، الحقيقة أنني لم أكن أعلم ماذا كنت أنتظر بالضبط، ما حدث هو أنني لم أرضَ عن صورتي، وقلت في نفسي هذا ليس أنا، دون أن أفقد الأمل في أن صورة قادمة سوف تنصفني، وتعطيني وجهي الذي يطابق صورتي عن نفسي. لكن الصورة الثانية كانت شبيهة بالصورة الأولى، على الرغم من أنها كانت عند مصور آخر اسمه “كوزما”. الصور الثانية خانتني أيضًا، وكررت الفشل نفسه، مرة بعد مرة، حتى يئست وقطعت حبل انتظاري، والتجأت أكثر إلى صورتي الذاتية عن نفسي، الصورة التي لا تجيد أو لا تريد الكاميرات التقاطها، ولا المرايا عكسها.

ليس الأمر تعبيرًا عن رغبة دفينة في أن أكون أجمل، أو رفضًا مبطنًا أو لا شعوريًا “لخلقتي”، كما سيخطر في بال القارئ. لنأخذ يدي مثلًا، فأنا لا أحتاج إلى مرآة أو جهاز تصوير مائي أو ضوئي، من أي نوع لكي أراها. أستطيع في كل لحظة أن أمدها أمام عيني، أن أفرد أصابعي وأضمها، كيفما شئت، أمام عيني دون وسائط أو توسطات. ها هي تمسك القلم وتكتب أمام عيني، أنا معجب بيدي المباشرة، صورتها في ذهني مطابقة لصورتها، وهي أمام نظري بهذا التناسق والرشاقة الساحرة، لكن يدي في الصورة تختلف عن يدي المباشرة، ثمة شيء ما يضيفه أو يحذفه الانعكاس.. ثمة تحريف أو غشّ ما. في الصورة، تصبح إبهامي أكثر تقوسًا وتبدو قبضتي أكبر وبراجمي أكثر بروزًا؛ في الصورة، أجد يدي أقرب إلى يد أبي، وليس إلى يدي أنا. لكن وجهي لا أراه إلا معكوسًا في مرآة أو في صورة، وهو في الحالتين يخون صورتي ويعاندني ولا يكف، في كل انعكاس، عن رمي الخيبة في نفسي. أعلم يائسًا أن لا سبيل إلى أن أرى وجهي مباشرة، كما أرى يدي، فاقطع الطريق على الغش الذي يسببه الانعكاس والتوسط.

لا أريد وجهًا أجمل، أريد وجهي الحقيقي الذي أراه كما أرى يدي. صورتي عن نفسي، هذه التي ترفض الكاميرات والمرايا التقاطها، قد تكون أجمل في نظري، مما أراه في صوري، دون أن يعني أنها أجمل، فما معنى أجمل؟ صوري الخائنة تعرض وجهي أحيانًا بشكل يبدو لي جميلًا، ولكني لا أتعرف فيه على نفسي. ليس في الأمر احتجاج على الخلقة، إنه فقط بحث عن حقيقة مغلفة بالمستحيل.

خائبًا، أقول في نفسي: وجهي لا يقع تحت نظري مباشرة، لكنه يقع مباشرة تحت نظر الآخرين، يرونه دون أن يعبث به الانعكاس في الأجهزة أو المرايا. أنا غريب عن وجهي إذن، مثل غربة الآخرين عن وجوههم. ثم أتساءل في نفسي: هل انشدادك المسحور إلى وجه ما أو صورة وجه ما، هو انشدادك إلى تصورك الذاتي عن صورتك؟ هل البحث في الوجوه هو بحث عن حضور مباشر “موضوعي”، لصورتك الذاتية عن وجهك؟ هل هو سعي دائم لكسر اغترابك عن صورتك؟

اللوحة للفنان السوري خالد الخاني
راتب شعبو


المصدر
جيرون