عن السلطة الأبوية والحب



“إن أي نظرية عن الحب يجب أن تبدأ بنظرية عن الإنسان، بنظرية عن الوجود الإنساني”. أريك فروم

افترض الفيلسوف جان جاك روسو أن الأولاد (الذكور على الأرجح)، عندما يبلغون سن الرشد، ويستقلون عن آبائهم وأمهاتهم؛ يتحررون من سلطتهم، ويحرورن آباءهم وأمهاتهم من واجباتهم، وتتحول العلاقة بين الأولاد والبنات، من جهة، والآباء والأمهات، من جهة ثانية، من علاقة تبعية تفرضها الحاجة إلى علاقة محبة واحترام. ولكن، ألا يظل للسلطة الأبوية (سلطة الأب والأم) أثر في نفوس الأولاد (والبنات)، الذين استبطنوا تلك السلطة المادية والمعنوية، منذ نعومة أظفارهم؟ ثم ألا يتحين الأولاد والبنات الفرصَ لممارسة ذلك النوع من السلطة (الأبوية)، ليس على من هم أصغر منهم فحسب، بل على الآباء والأمهات، وبخاصة على الأمهات؟

لا شك في أن أول حبّ يتلقاه الفرد (الذكر والأنثى، مع الفرق) هو حب الأم والأب، وأن جانبًا مهمًا من التربية والتنشئة الأسرية قوامه الحب، لكن هذا الجانب مشوه بالسلطة البطركية، التي تريد أن تكون السلطة الأبوية الممزوجة بالمحبة على شاكلتها، لذلك يتصرف الآباء بفظاظة، لإثبات رجولتهم وإنفاذ أوامرهم، وهكذا تبدأ عملية هدر الحب، في المجتمع البطركي.

للأم في المجتمع التقليدي -كمجتمعنا- طبيعة مزدوجة، فهي أم، لها مكانتها المكللة بالمحبة والاحترام، وهي امرأة، لا تختلف نظرة أولادها (وبناتها) إليها، من هذه الزاوية، عن نظرة المجتمع إلى المرأة، أعني النظرة السائدة والمعززة بعقيدة دينية.

السؤال الذي يتبادر إلى الذهن: هل عاطفة الحب بين الآباء والآمهات وبين الأولاد والبنات شيء، والرغبة في التملك والسيطرة شيء آخر، أم أن عاطفة الحب الأبوي والأمومي نفسها ممزوجة بهذه الرغبة، ولا تنفصل عنها؟ يشعر الآباء والأمهات غالبًا أنهم يمتلكون أولادهم، وأن من حقهم السيطرة عليهم، بل من واجبهم ومسؤوليتهم، حتى بعد أن يكبر الأولاد والبنات. ويشعر الأزواج غالبًا أنهم يمتلكون زوجاتهم وأولادهم معًا. وبالمقابل، يشعر الأولاد أنهم يمتلكون أمهاتهم وأخواتهم، ومن واجبهم حمايتهن والذود عنهن، ويشعرون أكثر من ذلك بأنهم يتعيبون بعيوبهن. والغريب أن البنات الراشدات يشعرن غالبًا شعورًا مماثلًا، بأنهن يمتلكن أمهاتهن، ومن واجبهن حمايتهن والذود عنهن، وتقويم سلوكهن. من المؤكد أن هذا ليس من طبيعة الأمور، بل نتيجة طغيان الروح الذكورية والسلطة البطركية على الحب الأبوي والأمومي.

إذا كانت عاطفة الحب مختلفة عن الرغبة في التملك والسيطرة؛ فمن البديهي أن يكون هناك نظرية للحب، تبدأ بنظرية عن الإنسان، نظرية عن الوجود الإنساني، حسب فروم. ونظرية للمسؤولية، مسؤولية الآباء والمهات، معيارها حقوق الطفل وحقوق الإنسان، وأن تعمم النظريتان على المدارس؛ لكي يتعلم الأطفال -الذكور والإناث- (فن الحب)، ويفرقوا بينه وبين (فن السلطة والسيطرة)؛ ولكي يتعلم المجتمع أن هدر الحب هو هدر الإنسان، بتعبير مصطفى حجازي.

مع أن كل نظرية تستوجب برهانًا على صحتها أو نفيها، فإن نظرية للحب، هي نظرية للإنسان، لا تحتاج إلى البرهنة عليها أو نفيها سوى من الإنسان ذاته. ملَكة الحكم التي يتمتع بها الإنسان هي أكثر البراهين صحةً على ماهيته الإنسانية، التي قوامها الحرية والاستقلال والتمكن الكياني، بعد استقلاله عن الطبيعة وعن سلالة الحيوان، وملَكة الوعي لديه هي التي تعرّفه بالحب والخير والجمال. لكن استقلال الإنسان عن الطبيعة لم يكن استقلالًا تامًا، فهو تابع لأحوالها المادية، كالشمس والماء والهواء والغذاء والسكن، أما تبعية الأبناء للأم والأب؛ فلها جانبان: جانب اضطراري في مرحلة الطفولة، وجانب اختياري في سن البلوغ. المرحلة الأولى تؤثر في المرحلة الثانية، بما تحمله من حب وعاطفة والتزام، وبما تتضمنه من رغبة في التملك.

الحب الذي يربطنا بالأسرة والعائلة هو الذي يحتاج إلى تنمية، وإلى بذل الجهد في تنمية وعي الذات وإدراك الحرية الداخلية، وإلاّ؛ تحوّل إلى حب متملك يهيمن على الآخر، ويلغي شخصيته وفرديته ويحجب استقلالها، وهذا ما يظهر في المجتمعات الأبوية المحكومة بالأعراف والتقاليد، فالسيطرة المتبادلة، بين الآباء والأمهات والأبناء والبنات، تندرج تحت مسمى الحب الأبوي، فلا يعتبر كلا الطرفين التدخلَ في شؤون الآخر سلطة، إنما هو ما تقتضيه مصلحة الأبناء من وجهة نظر الآباء، أما الأبناء فينظرون إلى الأمور حسب ما تقتضيه مصالحهم الخاصة، وهذا بالطبع حق من حقوقهم على الآباء، لكن قبل بلوغهم السن القانوني، وإدراكهم لذواتهم على أنهم أحرار مستقلون عن أمهاتهم بالتحديد، وكثيرًا ما نرى بعض التدخلات من قِبل الأبناء والبنات بشؤون أمهاتهم الخاصة، وبوجه خاص، إذا تعارضت مصلحة الأم الشخصية مع مصلحة الأبناء. في هذه الحالة يكون الأبناء غير قادرين على إدراك استقلالهم عن أمهاتهم، ومن ثم اندماجهم في العالم الخارجي.

لم نطرق هذا الموضوع من فراغ، أو بغية المطالبة بحقوق الأمهات، كونهنّ نساء، إنما من باب المشاهدة العينية لما يحصل من تشنج وخلافات شبه مستمرة بين الأبناء والأمهات في بعض المجتمعات؛ ما يؤدي إلى شرخ في العلاقة في ما بينهم، فعلاقة الأم بأولادها في هذه المجتمعات ليست علاقة متكافئة أو علاقة ندّية، فهي علاقة الأقوى بالضعيف، ويتوجب على الضعيف أن يدافع عن نفسه، في حال إحساسه بالخطر، وقد يكون الخطر هو الإحساس بالفقدان، فيصبح هو الأقوى، ويظهر هذا المظهر في حال زواج الأم، بعد انفصالها عن زوجها، أو في حال وفاته؛ إذ يصاب الأبناء بالتشنج والاستياء، وفي أغلب الأحيان، يرفضون الموضوع من جذوره، وقد يؤدي هذا الفعل إلى سوء العلاقة في ما بينهم، أو إلى القطيعة التامة؛ فيلجأ الأبناء إلى حبس أنفسهم في المنزل احتجاجًا على سلوك الأمهات، وخجلًا من المجتمع الذي أورثهم عادات وتقاليد بائدة مجافية للقيم الإنسانية، وتشريعات دينية نصّت بالقوامة على النساء، فتشرّبها الأبناء بدافع الحب الفطري أو الحب الغريزي، بينما في حال زواج الأب، لا نجد تلك الاحتجاجات أو المقاطعة، حتى لو كان زواجه بوجود الأم، نظرًا إلى الشريعة التي تتيح تعدد الزوجات! فزواج الأب لا يدعو إلى خجل الأبناء، داخل المجتمع الأبوي المشحون بالتخلف والهيمنة الذكورية التي توارثتها الأجيال، إضافة إلى الأنظمة السياسية والقوانين المجحفة بحق النساء، تلك الثقافة التي جعلت الأبناء الذكور ينظرون إلى أمهاتهم، على أنهنّ نساء محترمات ومحببات لديهم، لكنهنّ نساء دون منزلة الذكور، الأم منجبة وملتزمة بأعباء المنزل، ومهتمة بمستلزمات الأبناء فيما بعد مرحلة الطفولة.

الحب والحرية قطبان متلازمان، لا ينفصل أحدهما عن الآخر، الحرية في الحب اكتمال لشخصية الإنسان وفرديته، وهي تجدد وخلق وإبداع. فهي الركن الأهم من أركان الحب، وهي صفة جوهرية للإنسان، إلغاؤها من قِبل الآخرين هو إلغاء للإنسانية، “فكل رفض للحرية هو انتحار روحي، وكل اعتداء على حرية الآخر هو محاولة لقتل الإنسان فيه، وتحويله إلى حيوان، وسحق مخالف لطبائع الأشياء، وكل محاولة لإخماد نفحة الإبداع، ومبدأ الحرية والتشارك المبدع للبشر في الحياة الاجتماعية (النوعية)، تقود إلى حالة من الضعف والتهالك الاجتماعي، وإلى الاحتقان في الوقت نفسه”، حسب تعبير فرانك.

أريك فروم يعتبر الحب “فنًا”، يجب على الإنسان أن يتقنه كما يتقن عمله، عليه أن يتقن الحب بالوعي والإدراك، كما يعتبره أيضًا “انفصالًا واندماجًا”، في آنٍ واحد، انفصالًا عن الفطرة الطبيعية؛ واندماجًا في الكون وكل ما هو خارج الإنسان. “الإنسان يعي أن له ماضيًا، يبدأ بولادته التي لم تكن بمشيئته، وأن له مستقبلًا سيموت في نهايته رغم إرادته -أيضًا- وهو يعلم أنه سيموت بين أحبته، أو أنهم سيموتون أمام عينيه”. فمسألة تعلق الأبناء بالأمهات هي نتيجة لردة فعل طبيعية، على تعلق الأمهات بأبنائهن في مرحلة الطفولة، وكذلك السلطة الأبوية المصحوبة بالمحبة، التي تسربت إلى أذهان الأبناء، من خلال التربية الأسرية، ومناهج الدراسة والبيئة الاجتماعية والدينية؛ التي قيّدت المرأة، وفق أعرافها وتقاليدها الخاصة.


أنجيل الشاعر


المصدر
جيرون