الأخضر واليابس



في عام 2007 -على ما أذكر- زرت محافظة الرقة بدعوة من مركزها الثقافي، للمشاركة في أحد المهرجانات المسرحية التي تقام في مدينة الطبقة. كانت تلك الدعوة اليتيمة –ربما- التي وجهت إلي، ولبّيتها بفرح كبير. ما لفت انتباهي أن الطريق الصحراوية الطويلة كانت خالية تمامًا من اللون اﻷخضر! طريق غبراء قفراء تخلو من الشجر والبشر!

انتقلنا بعد ذلك مع الضيوف إلى مدينة الثورة (الطبقة) التي تبعد عن الرقة مسافة 50 كيلومترًا تقريبًا، ومرة أخرى كانت الطريق صحراوية غبراء قفراء، خالية -أيضًا- من الشجر والبشر، وحتى الجِمال!

لن أتحدث عن ذلك المهرجان المسرحي الذي يشبه مهرجانات البعث كلها. لكن حوارًا طريفًا جرى، عندما التقينا مع أمين الشعبية الحزبية في الطبقة! سأله يومذاك أحدُ الضيوف عن سرّ التصحر في هذا المكان الذي تخترقه المياه من شماله إلى جنوبه، ويحتوي على أكبر سد وأكبر بحيرة ماء في المنطقة؟ فقال لنا: إنها الصحراء… والناس هنا ما زالوا يكرهون الاستقرار، ويحنون إلى حياة البداوة والترحال، ثم أضاف متأسفًا: ثمة عداوة عجيبة بين الأهالي والخضرة، إنهم مثل الماعز، يقضمونها أينما وجدت! الشجرة بالنسبة إليهم ليست أكثر من حطب مؤجل للتدفئة في فصل الشتاء القارس.

سألت مستنكرًا: كيف تقول ذلك! هل تعلم أن الخليفة العباسي هارون الرشيد الذي تحمل الرقة اسمه، كان يقطع المسافة بين بغداد والرصافة، تحت ظلال النخيل؟ وهل تعلم أن الرقة شهدت عصرها الذهبي حين انتقل للإقامة فيها؟ نافست بغدادَ يومها بازدهارها الثقافي والاقتصادي، وقد بنى الرشيد فيها مقرًا له، عُرف باسم قصر السلام، وأنشأ ميادين للسباق وحدائق غناء، على ضفتي الفرات، إضافة إلى ميناء للسفن النهرية… هز الرفيق رأسه الجلحاء هزة العارف الساخر وكرر: أعرف أعرف… غرزنا آلاف الأشجار، مئات الآلاف، لم تصمد منها شجرة واحدة، بما في ذلك أشجار النخيل. وكيف تصمد، إذا كان الناس لا يحبونها!

قلت فجأة: وماذا كنتم تفعلون خلال هذه السنوات الطويلة؟ صار عمر “ثورة” البعث أربعة وأربعين عامًا! أما آن الأوان لكي تعلّموا هذا البدوي “الشرير” احترام الشجرة؟ لماذا لم تغيروه وتجعلوه يحبها؟ ألا يطلق على هذه المدينة اسم “الثورة”؟ أليس من واجب هذه الثورة أن تغير الناس؟

فجأة، تنطح أحدهم للرد علي، ولا أدري لماذا نهض منفعلًا وأشار إلي بسبابته، مهددًا: شوف أستاذ، أنتم ضيوف عندنا، وأهلًا ومرحبًا بكم في ديارنا… ولعلمك أستاذ، هذا السد اسمه سد الطبقة، يبلغ طوله 4500 م، وارتفاعه أكثر من 60 مترًا، بنيناه بجهد شعبنا وعرقه، واستمر بناؤه خمس سنوات. وهذه البحيرة اسمها بحيرة الأسد، وهي مـن أنظف البحيرات الصناعية العذبة في العالم، يبلغ طولها 80 كلم، وعرضها 8 كلم، ومحيطها 200 كم، ومساحتها 640 كم2. حجم التخزين فيها 14.1 مليااااار متر مكعب، يكفي الثورة فخرًا أنها أقامت أعظم سد وأكبر بحيرة في العالم، ناهيك عن المحطة الكهرومائية التي تولد سنويًا مليارين ونصف كيلو واط ساعي من الطاقة الكهربائية..‏. ثم خرج غاضبًا مخاصمًا، وساد الصمت..

لكن أمين الشعبة الرصين تنحنح وكسر الصمت قائلًا: هذه ليست مسرحية في مهرجان أستاذ، إنها الصحراء… الصحراء القاحلة.


غسان الجباعي


المصدر
جيرون