جميل حتمل وحكاية جيل مكسور



عشرون عامًا ونيف، مرّت على رحيل القاص جميل حتمل، وما زالت حياته وموته مثل وردة فاجعة قطعت للتو، وهو الذي حمل أحزان وهموم جيل بأكمله، في وطن مسكون بالخوف والحلم، حلم الكتابة كفعل مواجه للموت، حلم الرسم والشعر والسياسة، وإعادة التشكيل.

تجربة “حتمل” تطرح سؤالًا كبيرًا على ما يسمى بالربيع العربي! أين المثقف من هذه الثورة، وأين دوره من هذا الحدث الكبير، وهل كان ثمة إرهاصات تستشرف ما آلت إليه الأمور؟ إنصافًا للتجربة، أردت التوقف عند بعض خيوط هذا الكاتب بين الوطن وتجربة الاعتقال والملاحقة، والمنفى، لأشير إلى حكاية جيل مكسور، استطاع من خلال الكتابة أن يقدّم شهادة على عصره.

قراءة التجربة تعني استعادة مرحلة مشتعلة بالأسئلة والحلم، وتعني أكثر أن ما وصلنا إليه اليوم من ثورات، وربيع وخريف، وأنهار من البشر الذين أعلنوا ولا يزالون: “الشعب بدو حرية” و”الموت ولا المذلة”. لم يكن كل هذا وليد اللحظة، ولم يأتِ من الفراغ، بل كان هناك جيل كامل من الشباب، قبل ثلاثة عقود ونيف، قد بدأ هذا الطريق، ومنهم جميل حتمل، وقبله يوسف عبدلكي، وفرج بيرقدار، وإبراهيم صموئيل، وبشار العيسى، وهالة عبد الله، وفاديا لاذقاني، وحسان عزت، وأسماء كثيرة تركت بصمتها في الحياة والفن معًا.

كان جميل مسكونًا بالحلم والوعد، وكأنه في سباق مع الزمن، وكأنه في حركته وأحلامه ولونه الأشقر الشاحب، أشبه بالحلم الغريب. كان يحمل صليبه وصليب جيله معه، ليوزع رسائل الحب وأخبار الثقافة والسينما والسياسة، يركب دراجته ويلف شوارع دمشق ومقاهيها. هذا الحالم بالكتاب، والحبيبة ووطن معافى، يُعتقل في الثمانينات من القرن الماضي، ثم يُطلق سراحه، ليهيم بعدها في شوارع باريس صارخًا: “تعبت يا الله! أريد أن أعود إلى مدينتي، أو إلى بيتي القديم، تعبت من الميترو والأنفاق والوحدة وبرد الشتاء الداهم، وحريق القلب الآخذ في الانطفاء، تعبت وأريد أن أهمس كل مساء لابني: مساء الخير، تعبت فأعدني يا الله، ولو جثة، أعدني”.

ذلك هو جميل حتمل في عمره المخطوف، وأوجاع قلبه، والغربة واليتم قبلها، ووطن طاردٍ لكلِّ ما هو مختلف ومغاير. وطن يضع في ضفة العداء كل من خالفه الرأي. رحل حتمل تاركًا لنا أسئلة جيل بأكمله، وخمس مجموعات قصصية، ليعود إلى دمشق في صباح خريفي، محمولًا على تابوت.

يقول الكاتب عبد الرحمن منيف، في مقدمة المجموعات الخمس: “جميل أميرٌ للحزن، حزنه وحزن الآخرين، نبرة الصوت، نظرات العيون، وذلك الشجن الذي يلازمه كظله، ما قدمه من كتابة شهادة على العصر العربي الصعب، ولو أسعفه الحب؛ لربما استطاع أن يعيش فترة إضافية وأن يكتب، لكنّ الرياح سارت باتجاه آخر، مات جميل، وهو ينتظر الطائر الأزرق، ويتوقع وصوله، ولعل الطائر لا يتأخر أكثر مما فعل، لأن الكثيرين ينتظرون أيضًا”.

حين لا بلاد وقصص المرض:

أتوقف بداية، عند عنوان المجموعة (حين لا بلاد)، وأتساءل: هل الغربة من فرض عليه هذا العنوان، أم البلاد التي تبتعد عن أبنائها وعن معناها الحقيقي، البلاد التي باتت لا بلاد، فالكاتب الذي كتب “الطفلة ذات القبعة البيضاء”، وانفعالات، داخل الوطن، كتب في غربته “حين لا بلاد”، و”قصص المرض قصص الجنون”، و”سأقول لهم”.

(حين لا بلاد)، صرخة في وجه اليأس، صرخة تستدعي نبش الذاكرة، لنستحضر صورًا وشخصيات من الماضي، تعكس الحنين والاغتراب، كبعد فلسفي وحياتي، في مجموعة ضمت 18 قصة، كتبها حتمل في منفاه الباريسي، وكأنه يريد أن يستعيد الوطن بأمكنته وشخوصه، ببيوته التي عرفها وعاشها، البيت الأول، وتجربة السجن والاعتقال، فيحضر الوطن كأيقونة مفتقدة، أو جنة موعودة، تلك الأيقونة التي بقي أسيرًا لها، إلى أن أخذه المرض إلى قصص الجنون لاحقًا.

كيف قُتلت جدتي:

عنوان قصة يبدأ بسؤال: “كيف قتلت جدتي؟”، في هذه القصة، اعتمد حتمل على الذاكرة والصورة، وبدأها بشكل غير اعتيادي، يحمل بعد التجديد الحداثوي.

يروي حتمل من ذاكرته قصصًا حول سذاجة هذه الجدة الجميلة، وطيبتها التي تثير الضحك أحيانًا، حيث يلجأ إلى الكثير من الصور المتكئة على الذاكرة، منتقلًا من الزوج الذي توفي والأولاد الذين غادروها، ثم يتوقف عند لحظة اعتقال أحد أحفادها. هنا أراد جميل حتمل أن يرينا أن هذا كان سببًا كافيًا لموت هذه الجدة، دون أن يقترب من المباشرة، والأهم ما حملته هذه القصة من مدلولات لنظام لا يعرف العدالة.

قدّم حتمل بكتاباته شهادة لزمنٍ يمضي مسرعًا نحو الانحدار، هكذا مضت الجدة، وهكذا نمضي نحن. اعتمد حتمل على الصورة، صورة الجدة في غرفتها وعلى سريرها النحاسي، فكانت الصورة: “عقدة فكرية أو عاطفية في لحظة رمزية”. (إحسان عباس فن الشعر، ص 76). وهنا حملت الصورة علامة من علامات الذات، وقدرة الخيال على إضفاء الطابع الإنساني على الموضوعي الذي يعبر عنه بصوره المتخيلة. كما يقول باشلار.

فالصورة تمثل ضربًا من الانفصال عن الحياة اليومية، كونها تضعنا على عتبة الوجود، أو على عتبة إنسانيتنا الحقة، وهو ما قصده حتمل، من خلال محاولته الكشف عن معاني صور الذاكرة، من أجل التعرف على ذواتنا وتعريف الآخر –أيضًا- على آفاق عالم بين الذات والموضوع.

بروفايل:

“أنا الرجل الطفل، الرجل المنهك، المكسور كزجاج، المبعثر كزجاج، أنا الرجل المليء بالأحزان والطموحات، الرجل الذي لا يسمعه أحد، أو الذي لا يعرف كيف يوصل صوته”.

تلك العبارة في قصة (الطفلة ذات القبعة البيضاء) التي تشكل لاحقًا خيطًا فارقًا في حياته، هو خيط الحزن والانكسار، فاليتم، والاصطدام -لاحقًا- بقيود للحرية، السيارات الكامنة في الشوارع، الاعتقال، الزواج، الطلاق، الغربة في شوارع باريس، ومرض القلب وتجربة الوحدة والمشافي، ومن ثم الحنين إلى الوطن؛ حيث استطاع من خلال النص أن يبني لنفسه وطنًا من ورق، استحضره من الذاكرة إلى قصصه، ليشير بمرارة المجرّب إلى مغتصبي البسمة، مغتصبي السعادة، التي تجلت في صرخته (حين لا بلاد).

جميل ألفريد حتمل قاص موهوب، وصحافي مبدع، وسليل أسرة فنية أدبية مشهورة في دمشق وحوران. ولد عام 1956 في دمشق، ومات في السابع من تشرين الأول عام 1994، فجع بفقد والدته وهو طفل صغير، واستطاع تعويض هذه المرارة بالقراءة وفعل الكتابة، فاعتبر أحد الأسماء المهمة في جيل السبعينيات.

كتاباته بمجملها تحمل أسئلة المثقف السوري والعربي أيضًا، وهواجسه من الحرية والوطن والمجتمع، وقد عبّر عن هذا في قصة (انفعال)، معترفًا بأنه يعيش الانهيارات كاملة، وهو ما يعكس تأثره بقضايا العصر. هذا الوضع الذي يمضي في انحدار مخيف، أخذه إلى مزيد من أمراض القلب، والوحدة في منفاه الباريسي الذي اختاره.

أصدقاء وإهداءات:

“أنا متعب، وقلبي يتقلّص، يذبل وجعًا”، الكتابة القصيصة عكست المناخ العام الذي يتحرّك فيه جميل، وأرتنا وجع الأصدقاء، فإهداءات جميل إلى ابنه ألفريد حتمل، وائل سواح، جبرا، خليل بريز ويلماز غوني، وكان للقاص إبراهيم صموئيل مساحة في هذه الإهداءات، فقد تقاسما معًا حلم التغيير، والمعتقل، وفن القصة، وجلسات الأصدقاء.

ليس غريبًا أبدًا أن تشكل الكتابة شهادة على الزمن، في وقت أمّمَ فيه الحاكم كل شيء له، من هنا، تأتي أهمية قصص حتمل، كونها لحظة ضوء داخل الرماد، ذكريات لاحقته، وبالتالي لم تثمر لقاءاته بامرأة سوى بخيبة الفراق، والخوف من فشل قادم: “ثمة بيت مغلق الآن، وامرأة راحلة، ورسائل لا أرسلها، وأنا الوحيد في مقهى ما، ثمة”.

المنفى سجن:

المنفى سجن آخر، لأن “جميل” بقي أسير الذكريات والحنين، أسير اللحظات المضيئة والخيبات تحضر الوجوه والبيوت، والأصدقاء، ويكون للأهل مساحة في قصصه: ويخرج من تلك القصص إلى (حين لا بلاد) و(كيف قتلت جدتي)، قصة (ريحة الأهل) وحكايا الحنين، ليمضي بعدها إلى السجن في (تربيع الدجاجة، اعتذار، اذهب وارتحْ)، ليس هذا فحسب، بل فتح نصه على وحشة المنفى، والخيبة في قصص (صباح المدينة -ستارة -عربة آخر الليل)؛ فيحضر الزمن مكثفًا بالهموم والصور والذكريات.

نموت نحيا:

ما بين “الصدارية السوداء” في طفولة اليتم، و”النبتة”، وحكاية فقده لنجوى، القصة التي رصد فيها حالة الفقد، حين عاد ففوجئ بأن علاقته بنجوى آيلة إلى الخراب، هي تمضي إلى أهلها وجميل يعتني بالنبتة، ولكن مضت النبتة إلى الذبول ذبول العلاقة: “لا أريد لها أن تستسلم لاصفرارها هذا، إذًا هل تخبرونها بأن ترجع بسرعة، أنا خائف فعلًا، النبتة أيها السادة، هل تسمعون”.

حدث منذ 12 عامًا

في هذه القصة، إهداء إلى “خليل بريز، ويلماز غوني”، في إشارة إلى الأكراد والاعتقال، يقول: “لا حقّ عندنا أن نرى أفلامًا عن الأكراد”، ثم يتابع: “كنت أعرف أنه يحكي عن السجناء عادة، وبدوري كان ما يجمعني به فقط، عدا أني أحبه، أنني أعرف سجناء أيضًا”.

هذه الحكاية من قصص المرض، التي شكلت فيها المستشفى، مكانًا أشبه بالعنبر، بالسجن، وإحالتنا إلى تصوّر حالة الموت والعجز: “أحاول تحريك اليد، لم أعد في سرير ولا غرفة مشفى، كأنه ركام من تراب أو طين رطب، كذلك السواد ما يزال يملأ الجفنين.. ما يزال”.

يمضي حتمل من قصة إلى أخرى، ببساطة الفكرة وبمفردات قوية تحمل وضوح الدلالة، الفكرة التي تتنامى بفعل الحدث من خلال ارتكازها على تفاصيل الحياة اليومية الصغيرة، كل هذا يأتي بتنوع في الأسلوب، وتقنيات حديثة، من خلال العودة إلى الذكريات، والمونولوج الداخلي، واستخدامه صوت الراوي الحاضر والغائب، وتداخل الأمكنة في الحكاية الواحدة، بين دمشق وباريس، ويبقى الخيط الرابط الحزن. الحب.. الوحدة.. المرض.. الوطن.

جميل حتمل نموذج من نماذج المثقفين السوريين الذين دفعوا الضريبة كبيرة وفادحة، وسجلوا بكتاباتهم شهادات إدانة لنظام وواقع، وما وصلنا إليه اليوم من خراب.


فاتن حمودي


المصدر
جيرون