سراب بري



رواية (سراب بري) للروائي عبد الرحمن مطر تنتمي إلى أدب السجون، في ثنائية صادمة صارخة، ترسم ملامح اتجاهين متناقضين: الأول يقف إلى جانب الحياة من موقع معرفي، معلنًا أن الحرية والضرورة وعيٌ، في أعلى درجاته، ومدخل إلى الرؤية الحقيقية للصراع التاريخي الدائر، بين قوتين متنافرتين متناقضتين: الاستبداد والحرية. والثاني على النقيض منه. حدثان عميقان تعيشهما السجون العربية، رصدهما الروائي بعين الخبير.

دخل هذا الخبير الجراح ممرات الجسد العربي المريض، بيده المبضع، شاقًا طريقه للوصول إلى السبب الحقيقي للمرض، معتمدًا على الوعي بالحرية والضرورة والواقع وإنسانه.

إن التشريح السياسي والاجتماعي ضرورة وجودية، للبلدان المريضة بالاستبداد السياسي والثقافي والاجتماعي. والرواية هي الصرخة الأكثر قدرة على كشف المستور والمخبّأ. ورواية أدب السجون هي الأكثر صدقًا وأمانة لنشر الحقيقة كما هي، من دون تجميل أو تذويق.

الرواية وضعت السلطة بين أيدينا عارية، وجهًا لوجه، كما خلقت، دون لبس أو زيف. فككت الإشارات والطقوس الغامضة فيها، ورغبتها في أن تكون غامضة طوال تاريخها: التعذيب الممنهج القاسي جدًا، بمختلف أنواعه، فلقة، صعق كهربائي، العزل الاجتماعي، الكذب، دخول البيوت دون حرمة أو احترام لقدسية العلاقة الاجتماعية الحميمة، انتهاك عالم الطفولة ونقش الألم فيه، الذي لا يمكن أن يمحى: “ألا تفكون قيدي، الأولاد هنا.. وكل شيء حسن كما تريدون”.

قاسية الحياة في ظل الحاكم المستبد، تتفكك العائلة وتندثر، يتمزق الأطفال من الداخل، وتضيع الحياة السوية. يد المستبد تطال كل ركن وزاوية، يطلق الحرية لنفسه في العبث في حيوات الناس: “كانت المجموعة كالجراد الذي يغير على الحقول.. يمدون أيديهم إلى المكتبة، ويأخذون كل ورقة أو ملف أو مظروف أو كتاب فيه أوراق أو ملاحظات”.

في لحظة الوداع والحسرة والانفصال: “الكل صامت، مطرق نحو الأرض، أخذ بيد (شام)، فنهضت، ضمها إلى صدره، فارتمت إليه باكية، تسأل عما يجري، لكنه لم يجب، ربت على ظهرها بكفيه، قبّل عينيها كعادته، حاول طمأنتها، دون جدوى.

يُعتقل المرء في بلادنا نتيجة وشاية، أو تلفيق. باختصار تقدِم السلطة العربية على كل الموبقات القذرة؛ لإبقاء خصمها بين يديها، محرومًا من الحياة والحرية، حتى من دون أي سبب.

في الحقيقة، إن السلطة تريد الإبقاء على هذا العماء والغموض، دون انكشاف، عبر إغلاق أبوابها من كل الجوانب، وإبقاء ساحة الحوار مغلقة حتى تستجيب الضحية لشروطها، وتسقط بين يديها كثمرة طازجة، وفي حالة إذعان كامل.

لغة النص انسيابية هادئة، تسير على نسق جارح. فيها حرفة الروائي المتمكن من عمله، لغته شفافة، يمكن قراءة العمل بلا عناء. مبينًا لنا أساليب التعذيب، أصولية السلطة العربية اللاسياسية، وانفصالها عن العصر. بمعنى أنها تقبع في الماضي، دون أي رغبة في الخروج من قوقعتها. لقد فرضت على نفسها هذا الانغلاق لحشر نفسها في الماضي، دون أن تتزحزح، ولتبقى في مكانها كعلاقة مشبوهة، تماهي بين الزعيم والسلطة، وسلوكه وسلوك القائمين على خدمته، في علاقة مشبوهة ومريضة.

يرى السجين السياسي نفسه، قلْبَ المجتمع، نبضه وروحه؛ فيعطف عليه، يقدم جسده الخاص وروحه قربانًا، من أجل أن يبقى الجسد العام قويًا، يرتقي ويتطور ويتحول إلى مجتمع معافى، سليم البنية السياسية والاجتماعية والاقتصادية.

والنقيض الآخر: سجين الحق العام، الذي يرى نفسه أقل أو تحت المجتمع، قاعَه، فيحاول أن ينتقم منه، عبر تدمير ممنهج لذاته، دون وعي منه بالضرورة والحرية، وليس لديه القدرة في البحث عن ملجأ يتكئ عليه أو يركن إليه، في غياب كامل لدولة المواطنة التي يمكنها تقديم الحماية له.

المجتمع التحت مجتمع عالم الجريمة، عالم الحشيش والمخدرات والقتال العبثي، والوشاية، واعتبار السلطة أبًا كبيرًا، يجب الخضوع له طوعًا دون أي سؤال. وكلما تعرض للأذى من قِبلها؛ شعر هذا المسحوق أن هذا حقه الطبيعي: “أن يضرب ويهان منها. إنه عالم غريب، فقير بالمعرفة، لا وعي ينقذه ولا خلاص لحياته. يشعر أن مكانه الطبيعي هو تحت الأقدام”.

والسجن عالم الموت البطيء: “كل صباح هو نهار جديد.. إلا في السجن. الرتابة والضجر مملان إلى درجة قاتلة. لا نكهة لشيء سوى الحرمان. التعذيب والإهانة والشتائم مملة هي الأخرى”.

الرواية وثيقة حقيقية قدمت للحياة العربية المعاصرة، وللمكتبة العربية، قبل قيام الثورات العربية، وأثناها. وراصد أمين لما حدث ويحدث يومًا بيوم، ولحظة بلحظتها.

(سراب بري) عمل دقيق ومضن، يشكر عليه الروائي عبد الرحمن مطر، لأنه قدم لنا صورة واضحة لما يحدث للآخر، المنبوذ، مجتمع القاع أو المظلم. ذلك السجين النكرة الذي يعيش معاناته بصمت، دون أن يعلن المجتمع عن وجوده. موجود في مكان مهمل مدان، ودون أن يتم معرفة ظروفه وحياته ومشاكله وشروط وجوده، ككائن مكسور ومحتقر، ولا يوجد من يتعاطف معه.

هناك رصد لمأساة أخرى أقسى وأمر: وبين الفينة والأخرى تجهز الساحة ويتم تحضريها للإعدام، مع أول شرطي وقف على باب القسم، وصل الخبر اليقين: أعدم ستة، واحد مخدرات، والخمسة قضايا قتل.

ما أصعب أن يعيش الكاتب أو المفكر أو السجين السياسي في سجن الحق العام، مع سجناء منطقهم مفكك، ومتفارق عن الباحث عن الحرية، حيث التكوين النفسي والعقلي لهؤلاء الضحايا مختلف تمامًا! جاء السجن السياسي لصناعة الخوف وتخريب الذائقة الجمالية والثقافية لدى الجميع.

عمِلَ النص الروائي الذي بين أيدينا على وضع يده على الجرح: من خلال الألم الذي عاناه السجين، عرّى المجتمع كما عرى السلطة العربية، وضعهما أمام أعيينا من خلال رصده التعذيب الممنهج للخصم السياسي، البديل القادم، المجتمع، الذي يسعى في الوصول إلى أهدافه ومراميه.

إن السلطة العربية كتلة صماء، متعالية، مشوهة ليس لديها لغة التواصل مع المجتمع ومع نفسها، لهذا تبقى منفصلة عن نفسها ومجتمعها.

حُكم على الكاتب، السجين والمثقف، بالمؤبد؛ لأن لديه رأيًا مخالفًا لرأي السلطة الليبية. وعندما تحركت الجماهير في بنغازي عام 2011، أقدم معمر القذافي على قراءة خطاب يتحدث فيه: “سجناء سياسيون؟ نحن ليس لدينا. إذا كان هناك أحد منهم؛ فلا تبقوا أحدًا منهم، أطلقوا سراحهم جميعًا. العملاء، الجواسيس، الخونة، المتآمرين، أطلقوا سراحهم فورًا”. تلك هي صفات السجناء السياسيين، في أي سجن يقبعون فيه، من أرض الشرق الواسعة، التي لا حدود لسحرها.. وقهرها.

عندما رحل من ليبيا إلى دمشق كان الأمن السياسي السوري في انتظاره: “وقف قبالة الجدار لدقائق، فك قيده؛ ثم أخرج كل ما في جيوبه، وخلع ثيابه في مكانه. رياح شباط تصفر في المكان، وجسده ينكمش شيئًا فشيئاً، ويتغلغل فيه البرد ممزوجًا، بالقلق والمصير الذي آل إليه:

أنت موقوف”.

هذا هو العالم السياسي العربي: سجان يمسك بيد سجان، كأن هناك مايسترو يحركهم على إيقاع رقصة واحدة.


آرام كرابيت


المصدر
جيرون