ملامح الليبرالية الثقافية خلال سنوات الثورة



يلوبُ الناس داخل قوارير مغلقة، محكمةِ الإغلاق، في حركة مقعّرة تقود دومًا إلى القاع، حيث يتساوى منسوبُ العدم مع شهيّة الابتكار، وحيث السنوات تمرُّ كأنها انشطارٌ ذاتي للضجر، أو كأنها واحدة من التبعات المؤكدة لكسل المخيّلة، وكأن الثورة أيضًا -كفعلٍ راديكالي محسوس، على الأقل للتداوي من ديمومة السلطة القائمة- لم تُثرِ يبابَ الخمول الحسيّ لدى العامة.

يقود تتبّع الأثر الثقافي لنتاج الثورة السوريّة إلى اكتشاف تمدّدهِ داخل مطارحِ النخبة فقط، كما كان واقعُ حالِ الثقافة قبل عام 2011، وهذا ليس عيب الثقافة، بل عيب الأنظمة الديكتاتوريّة، حين ربطت تقنيةَ البقاء ولقمة العيش، بمفهومِ الكدح العضلي وحسب، فلديها “الثقافة لا تطعم فمًا جائعًا”، والثقافة في سورية -كما في غيرها من دولٍ قضمتها على مهلٍ نخبٌ طفيّليّةٌ حاكمة- هي ترفٌ، وقناعٌ زائفٌ لواقعٍ، فيه الجوع والموت من الجوعِ احتمالان قائمان، وفيه الاستقصاءُ عن الاستهلاك فعلٌ يوميّ، يقود إلى اقتناء منتجاتٍ تقنيّة أو مادية بصورة دائمة، وتجنّب اقتناء المنتجات الثقافيّة بوصفها ترفًا لدى العامة، لا تخلق سوى عالمٍ موازٍ للعالم المادي المتاح لمسه، وإحصاءِ جزيئاته الثقيلة.

يعرّف وليم كلباتريك الثقافة بأنها “كل ما صنعهُ عقل الإنسان من أشياء ومظاهر اجتماعية في بيئتهِ الاجتماعية”، ويعرّفها الأنثروبولوجي الإنجليزي إدوارد تايلور بأنها “ذلك الكل الذي يتضمن المعرفة، والعقيدة، والفن، والأخلاق، والعادات، وأيّ قدراتٍ اكتسبها الإنسان، كعضوٍ داخل المجتمع”.

إذًا، لا تصنع الثقافة عالمًا موازيًا موهومًا، بمقدار ما تقترحُ إجراء مراجعةٍ آمنة للحيّز الواقعيّ من الشعور، باعتبار أن إدراك المحسوسات مسألة نسبيّة، يتدخل في صوغها العامل الذاتي، كعاملٍ حاسم، فلا ننظر جميعنا إلى الواقع نظرةً متماثلة، ولا نُقبلُ عليه من الزاوية نفسها، ولا نتفقُ حتى على فهمهِ فهمًا واحدًا، فننتقي منه جوانب، ونهمل أخرى، وهذه الانتقائيّة تحدد بدقة المساحة التي نسايرُ بها الثقافة، ونقبلها كمعطى حيّ، ومستمسك أخير على قصورِ الواقع الماديّ المجرّد في إشباع كل حاجاتنا الفعليّة.

لأن الثورة حرثت الفكر المطبّع، وحاولت إزاحته عن مساره المقفل، ما أمكن؛ فإننا نجد أنّ نتاجها الثقافي -على مستوى النصّ الخطابي- جاء ثأريًّا، كأنه يصفّي حساباته القديمة مع سجّانه المخضرم، وتوصيفيًا في آن، يرصدُ وجع اللحظة القائمة كما هو، ولا يَشتَبِهُ بهِ. ولا نجد ذلك في النصّ الروائيّ فحسب، بل في النصّ السينمائي أيضًا، كما في خطوط ومنحنيات اللوحات الفنيّة، وفي سيمياء ألوانها، وربما نشهد من وراء ذلك التراكم الكميّ مقدماتٍ جادة لتشكّل ليبراليّة ثقافية، ترتكز على حقوق الأفراد في حرية التفكير والاعتقاد والتعبير والمعرفة. ألم يعتبر جون ستيوارت مل الفيلسوف والاقتصادي الإنكليزي المعروف أنّ الهدف النهائي الذي يسعى الجنس البشري لتحقيقه، سواء كان ذلك بشكلٍ فردي أو جماعي، يتجسدُ في الدفاع عن النفس، وأنّه الهدف الوحيد الذي يقنّن المنهج الذي تمارس به السلطة وظيفتها، في المجتمع بشكلٍ قويم.

الصعوبة تتمثّل هنا في تمكين مقدّمات الليبرالية الثقافية الناشئة لدينا، وهذا متاح فقط بمقدار تحفيز أدوات التفكير الحرّ، والرفض الذهني لكل محاولات السلطة القائمة في وضع القيود، أو حتى قواعد وقوالب التفكير الجاهزة ذات الطابع النمطيّ المعروف، وهذا عمل دؤوب يُفترض به أن يتّسع أفقيًا، ليطال صنوف الأدب والفن التشكيلي أو حتى النشاط الأكاديمي البحثيّ، حتى إنّ فئةً واسعة، من مناصري الثقافة الليبراليّة في العالم المتحضّر، يذهبون أبعد من ذلك، فينظرون إلى الثقافة الحرّة على أنها تطال أيضًا قضايا الجنس والإجهاض وتحديد النسل.

المؤسف أن يكون تصدير منظومة التفكير الحرّ، بعد كسر حاجز الخوف في سورية، مسألةً نسبيّة، تخضع للحسابات المناطقيّة قبل أيّ شيء، ويمكن بناءُ استنتاجات جادة في هذا الخصوص، واكتشاف ملامح المنتج الثقافيّ السائد لدى المناطق التي تخضع لسيطرة النظام، وتقديمِ توصيفٍ تقريبي له؛ إذ إن تكريس نمط الاستهلاك وهيمنته على البناء الاقتصادي الاجتماعي تحوّل، خلال السنوات الماضية، إلى قيمةٍ مجرّدة، صاغت في مكانٍ ما مخرجاتٍ ثقافيّة استهلاكيّة، ذات طابع سريع الإنتاج والعطب، وواسع التداول، وإنْ بمضمونٍ دعائي لم تتغيّر مكوّناته ومفرداته، أحاديّ الوجهة والفكرة، فقير بإدراكه لتشعبات الواقع، وطرح كلّ احتمالاته الممكنة للنقاش. نحن نتحدث عن خطابٍ أدبيٍّ موالٍ للسلطة، وحيد الاتجاه، يعاقبُ فكرة الثورة بتصويرها “مؤامرةً كونية”، على نظام حكمٍ يتفوّق على فكرة النقد أو المحاسبة، وعن مستوى مسرحٍ يدور حول الحدث الرئيس، ولا يقترب منه. الفقر الفكري والخوف كلاهما قد يحوّلان مسرحيّةً ما إلى فيلمٍ سينمائيّ، يقترحان إعادة تدويرٍ بائسٍ للفكرة، ومسرحيّة “المهاجران”، التي صارت فيلمًا، مثالٌ على ذلك، ثم يأتي فنٌّ تشكيّليّ لا يقبض على الواقع داخل أصابعه اللونيّة، بل يطير فوقه، أو يحيد عنه، وهو يستعيدُ تعبيريّةً فصاميّة، أو تصويريةً هادئة تنتمي إلى منظومة التفكير المسطّح، الممسوك أمنيًا قبل العام 2011.

لأن التعبير الموضوعيّ عن حركة الاحتجاجات الشعبيّة تجلّى مرارًا في مقدّماتٍ نظرية، لبلورة ليبراليّة ثقافيّة حقيقية؛ ترفض أشكال الهيمنة الأمنيّة، ووسائل التلقين السلطويّ لنصوصها المختلفة، فإن مسؤولية الحفاظ عليها، وتمكينها -كأدواتِ عمل داخل منظومة الوعي الجمعي- تكاد تكون مسؤوليّة أخلاقية، قبل كلّ شيء، تتلاقى مع ضرورة إتاحة امتلاكها، والاطلاع عليها، على الأقل في نسخٍ إلكترونية متواضعة؛ إذ إنّ معظم الإنتاج الأدبي الحرّ ما بعد العام 2011 هو إنتاجٌ ممنوع تداوله داخل سورية، وصعبٌ الحصول عليه إلكترونيًّا، بسبب حقوق الملكية الفكريّة للكاتب ولدار النشر، حتى إن الأفلام السينمائيّة القصيرة أو التسجيليّة هي الأخرى غير متاحة التداول؛ ما يهدد إحدى قواعد الليبرالية، في حريّة تنقّل الأفكار، وعبورها آفة الحدود، ومكر الأقفاص التي تحبسها.


أيمن الشوفي


المصدر
جيرون