موج مؤتمر الرياض



استُقبل كثير من مخرجات مؤتمر (الرياض 2)، بموج عاصف، إن كان من جهة البيان، أو تشكيل الهيئة العليا، أو وفد المفاوضات، ومن خلفيات متعددة، وهناك من نصّب نفسه -على مدار سنوات الثورة- وصيًا وحيدًا، وهو ما أطلقتُ عليه في إحدى المقالات تسمية “حراس المعبد”، حيث يرون أنفسهم المحافظين الوحيدين على ثوابت الثورة، وأن أي زحزحة في المواقع دونهم تعني توصيفات جاهزة وأحكامًا معلبة، وتحضر دومًا قصة الثوابت والتفريط، في حين أن التطورات المتلاحقة والدحرجة التي حدثت من عامين ويزيد، كانت تستدعي أخذها بالاعتبار، وبناء تكتيك مناسب يواجهها. وهناك -بلا شك- فئات تعترض بالجوهر على التفاهم مع منصتي القاهرة وموسكو، وخصوصًا الأخيرة، وتعتبر ذلك بمثابة فعل الخيانة، وهناك آخرون لم تتم دعوتهم لأسباب مختلفة، أو أنهم حضروا المؤتمر، ولم يسعفهم “حظ” التركيب في المشاركة بالهيئة العليا أو وفد المفاوضات، وهناك حالة شعبوية مثل الموج تكثِر من الصراخ، وترديد الشعارات، ومعها الاتهامات من شتى العيارات.

تناول كثير من المعترضين البيانَ الختامي بالتركيز على تلك الجملة الواردة التي تُعلن القبول بمفاوضات مباشرة دون شروط، ويرون فيها تخلّيًا عن الثوابت، أو تناقضًا مع التمسك بالثوابت التي وردت نصًّا واضحًا، يرفض أي دور للأسد وكبار رموز النظام من الملوثة أيديهم بالقتل، مع بدء المرحلة الانتقالية، وهي الكلمات ذاتها التي وردت في بيان (الرياض 1).

في النقاشات الطويلة التي دارت في الهيئة السياسية للائتلاف التي تقدّمت بمشروع البيان، ومع الأطراف المعارضة الأخرى من شتى الاتجاهات، كان الواضح أن القصد بمفاوضات غير مشروطة يخصّ المرحلة التحضيرية السابقة، والمهيّئة للمرحلة الانتقالية، وأنها يجب أن تكون مفتوحة لمناقشة كافة القضايا، وأبرزها طبيعة النظام القادم، النظام التعددي، الديمقراطي، المدني المرتكز على مبدأ المواطنة المتساوية، والبديل عمليًا لنظام الفئوية والاستبداد، ووضع القضايا المحورية على طاولة المفاوضات، إلى حين الشروع في المرحلة الانتقالية، وتشكيل هيئة الحكم الانتقالي بصلاحيات تنفيذية كاملة، بل تشريعية أيضًا التي لن يقبل فيها أي دور للأسد منذ بدايتها، ومعه كبار رموز النظام من الملوثة أيديهم بدماء السوريين.

يجب التأكيد أن الائتلاف، عبر وفده في اللجنة التحضيرية، وفي لقاءاته مع عدد كبير من المشاركين بخاصة مع هيئة التنسيق ومنصة القاهرة، كان الأكثر إصرارًا على تثبيت ذلك البند الخاص بالأسد، وقد رفض كل الآراء التي قدّمت ولم تكن مختلفة في المضمون، بل في التكتيك، كما وصفها جلّ هؤلاء، ونجح في تثبيتها والموافقة عليها، وكان معه عدد كبير من المشاركين، بينما لم يعترض أحد -علنيًا- سوى مندوب منصة موسكو.

يجب التأكيد أيضًا أن بيان (الرياض 2) أكثر تطورًا وشمولية في تعريفه لطبيعة الدولة البديل، وتحديد هويتها دون لبس بأنها مدنية وتعددية وديمقراطية مع شرح مفصل، بدلًا من “آليات ديمقراطية” التي وردت في بيان (الرياض 1) والتي كانت مثار اعتراض واحتجاج الكثيرين، وكذا الاعتراف بالمكونات القومية والدينية والمذهبية وبحقوقها، وفق مبدأ المواطنة المتساوية. والإشكال الثاني، يتعلق بقبول كل من منصتي القاهرة وموسكو، ثم في “حصتهما” في الهيئة العليا والأمانة العامة التي استحدثت كحل لتزاحم المحاصصات.

ليس مؤتمر الرياض من قرر مشاركة تلك المنصتين، وإنما القرار 2254 كما هو معروف، وبناء على تدخل روسي فرضه، وقد حاولت الهيئة العليا السابقة التهرّب من هذا المفروض زمنًا، وعدم الاعتراف به، بينما كانت الضغوط تتوالى، ودي ميستورا يجتمع بهما موازاة مع لقاءاته بالوفد التفاوضي، ويوالي ضغطه لإدخالهما ضمن الوفد، واستجابت الهيئة العليا لعقد جلسات حوارية، أثمرت عن توافق مع المنصتين على المشاركة بممثلين عن كل منهما، وهو الأمر الذي رفضته الهيئة العليا لاحقًا، ودعَت إلى حوار مباشر في الرياض لم يؤد إلى نتيجة إيجابية.

النقاط المشتركة مع منصة القاهرة كثيرة، وتكاد أن تكون شاملة حول أهمية الخلاص من نظام الاستبداد بشكل كامل، ورئيسه وكبار رموزه، وتركّز الخلاف حول التكتيك بوجهة نظرٍ لا ترى وجوب إيراد ذلك علنيًا، كشرط مسبق، بينما المسافة أكبر مع منصة موسكو حول مجموعة من القضايا الخاصة بالانتقال، والدستور، وهي أقرب إلى المشروع الروسي الذي يحاول نسف بيان (جنيف 1)، بتقديم بندَي الدستور والانتخابات على الانتقال السياسي، وعمليًا، إذا ما تحقق ذلك لن يكون هناك مبرر لذلك الانتقال، عدا عن أمر “مؤتمر سوتشي”، وموقعه من المشروع الروسي ومن عملية إيجاد مسار بديل، أو مواز لجنيف.

قُدِّمت جوائز ترضية لكلتا المنصتين، في تشكيل ما يعرف بـ “الأمانة العامة” التي تجاوزت خمسين عضوًا بعد التهديد بالانسحاب، وحرص السعودية على إنجاح المؤتمر، وإشراك المنصتين، وانعكس ذلك أيضًا في تشكيل الهيئة العليا من 36 عضوًا، وحصول كل منصة على أربعة فيها، بينما ليس هناك ما يعرف بالثلث المعطل، لا من حيث الإقرار به، ولا من حيث محاولات الدمج بين منصتي القاهرة وموسكو ككتلة واحدة، حيث إن الفروقات كبيرة بينهما، وقد صرحّ بذلك أعضاء منصة القاهرة.

تبدو الصورة أوضح في وفد المفاوضات الذي تساوى فيه الجميع، وكان ذلك على حساب الائتلاف والفصائل، بواقع ممثل عن كل “كيان”، إضافة إلى رئيس الهيئة العليا، رئيس وفد التفاوض كعضو في الائتلاف.

لكن الحقيقة الأكيدة تفيد بأن الأغلبية، في الهيئة العليا وفي الوفد التفاوضي، متفقة على الثوابت، وعدم التفريط بها بأي حال من الأحوال، إضافة إلى أن موقف الائتلاف ثابت منها، ولن يقبل مطلقًا الزحزحة عنها لأنها حق الشعب السوري، وهدف محوري للثورة، وعندما يجدّ الجدّ وتناقش المرحلة الانتقالية سيثبت الوفد عند شروطه، وإلا سيكون موقفه تنفيذًا لقرارات الائتلاف التي لا رجعة فيها، والتي سيلتزم بها وفده.

من حق الجميع أن ينتقدوا وأن يحتجوا وأن يرفضوا، طالما أن الخلفية هي الحرص على ثوابت الثورة وأهدافها، وهي عامل قوة واستناد لوفد التفاوض، بعيدًا عن الخلفيات الذاتية والمحركات التي لا علاقة لها بالمعلن أصلًا من الاعتراض والاحتجاج، ويبقى المهم أن يعطى الوفد فرصته للحكم على مواقفه، وليس بشكل استباقي.


عقاب يحيى


المصدر
جيرون