الملك (الأخير) في سورية: تحويل حكم الأسد إلى حكم إقطاعي



لم تعنِ خسارة نظام بشار الأسد السيطرةَ على 78 في المئة من مساحة سورية، ونحو 226 مليار دولار أميركي من إجمالي الناتج المحلي الإجمالي للبلاد –من دون ذكر الخسائر البشرية المتستّر عليها- خسارتَه. احتاج النظام، لمنع الثوار من التقدم باتجاه دمشق، إلى تدخل روسيا وإيران و”حزب الله” العسكري. وفي الوقت نفسه، اضطر النظام إلى التضحية ببعض من سيادته للميليشيات الموالية، بهدف زيادة قدرته القتالية والحفاظ على الأمن بعيدًا عن خطوط الجبهة. في أثناء تلاشي التهديدات الوجودية التي تشكلها “الدولة الإسلامية”، ومختلف القوى الثورية على النظام، من الضروري فهم توازن القوى، بين الأسد وتلك الميليشيات. لقد أصبح الجزء الخاضع لسيطرة النظام من سورية أقرب إلى النموذج الإقطاعي؛ حيث يسمح الأسد فيه للميليشيات الموالية، بالحفاظ على الأمن أو القتال على الخطوط الأمامية، مقابل حصولها على بعض الامتيازات أو درجة من الحكم الذاتي.

يُعدّ، بشكل أكيد، اضطرار النظام إلى اللجوء إلى استقدام -أو تشكيل- ميليشيات، لتدعيم إمكاناته القتالية والبوليسية، علامةً على ضعفه. إضافة إلى ما سبق، فإن حوادث العنف غير المصرّح بها التي ارتكبتها تلك الميليشيات الموالية قد اتُخذت كنذير على موت النظام الوشيك.

كان هنالك مَيل للإشارة إلى أمثلة عن العنف غير المأذون به، كقتال ميليشيتين مواليتين لبعضهما البعض، واستقراء ميل تجاه تفكك النظام منها، وذهب التفكير إلى أن يقول إن مساعدةً روسية أو إيرانية لن تستطيع إنقاذ النظام من نفسه؛ مهما بلغ حجمها. ولكن تلك المحكمة قد أعطت فكرة خائبة عن مدى مرونة نظام الأسد البعثي الذي أثبت قدرته على تحريك واستعمال وصنع الكثير من الصفقات الشيطانية؛ لضمان بقائه على قيد الحياة، وبينما ضحى الأسد بدرجة من سلطته للميليشيات الموالية، فإن استقلالية تلك الجماعات في العمل ما تزال معتمدة على إذن من النظام.

قام النظام، ليضمن بقاءه على قيد الحياة، بعسكرة مكوناته؛ الأمر الذي عزز من الخصائص الإقطاعية الموجودة من قبل، من خلال الدعم الشخصي والاستقلال الذاتي المحلي للأجهزة الأمنية. حتى الآن، لم يقع الأسد ضحية لقادة تلك الميليشيات المقوّاة، والذين يشبهون أحيانًا أرباب الحرب، ويعود ذلك جزئيًا إلى اعتماده على دعم روسيا وإيران الخارجي. باختصار، يبقى الأسد ملكًا، ولكن يتعين على صانعي السياسة ومراقبي سورية الشعورُ بالقلق؛ ويعود ذلك إلى كون أي مشاركة دولية، في إنعاش وإعادة إعمار سورية، ملزمة بالتورط في المفاوضات الغامضة والمتغيرة، بين النظام والميليشيات الموالية.

صلاحيات أوقات الحرب

تقاتل، اليوم، عشرات الميليشيات إلى جانب نظام الأسد، وتختلف تلك المجموعات في اعتقاداتها وفي أماكن نشاطها، كما أنها أكثر مناطقية (محلية) من الجيش السوري؛ ما يجذب المجندين إليها عبر أنحاء البلاد. ويتشكل طيف تلك الميليشيات الأيديولوجي والطائفي ودافعها المحرك، من ميليشيات بعثية (كتيبة البعث)، إلى سورية عامة (نسور الزوبعة)، ومن قومية/ خمينية (كتيبة الإمام المهدي)، إلى كتيبة من مهربين تحولوا إلى وطنيين (صقور الصحراء).

لتعويض تلك الميليشيات عن تضحياتها في أوقات الحرب؛ أقدم الأسد على عدد من التنازلات؛ إذ تسامح النظام مع عمليات النهب التي قامت بها الميليشيات الموالية في المناطق التي أعيد السيطرة عليها (أو “المحررة”)، مع الإشارة إلى حدوث أشد عمليات النهب انتقامًا، بعد معارك طويلة وشرسة بشكل خاص، كمعركة “استعادة حلب” على سبيل المثال. كما سُمح للميليشيات الموالية بإنشاء حواجز تفتيش، زودتها بمصدر لاستخراج الدخل من سوريين آخرين، تحت مسمى تزويدهم بـ “الحماية”.

يتجلى الخوف هنا، بالطبع، من أن تتحول صلاحيات أوقات الحرب تلك إلى سمات دائمة، في المشهد السوري؛ إذ أشارت تقارير إلى مشكلة عمليات نهب الميليشيات التي أعادت السيطرة على الجزء الشرقي لمدينة حلب، وتأسيسها المُجهد لسلسلة من حواجز التفتيش في جميع أنحاء المدينة. كما تعرضت الميليشيات المكلفة بإبقاء البلدات تحت الحصار، للاتهام بتقويض مفاوضات وقف إطلاق النار، عبر إثارتها للعنف بهدف الحفاظ على أرباح عمليات التهريب التي تجنيها من إدارتها للحصار. وقد بدأ بعض تلك الميليشيات يتشبه ويتصرف كأرباب الحرب، بشكل مثير للقلق.

مخاوف المواطنين

يعي الأسد أن شرعيته الشعبية قد تتقوض؛ إذا سمح للميليشيات بسلوك عدواني، من دون أي تدقيق. لطالما سعت عائلة الأسد للحكم من دون أي منافس. لقد تحمل السوريون الموجودون في أماكن سيطرة النظام الكثير، تحت اسم “ربح الحرب”، ولكن لكل شيء حد. وتشير الطريقة التي يتعامل بها الأسد مع نزعات “أرباب الحرب” للميليشيات الموالية إلى الكثير عن توازن القوة في داخل النظام.

في الواقع، لقد باتت حواجز التفتيش سابقة الذكر، وعمليات النهب والحصار مرهقة للغاية، إلى درجة أن الأسد قد اضطر إلى الإجابة على سلوك “الميليشيات الموالية” بشكل علني، وإن كان بشكل غير مباشر. فعلى سبيل المثال، قام الأسد بالإشارة إلى المشكلة، في حديثه لمجلس وزرائه، في شهر حزيران/ يونيو 2017، وذلك عندما تحدث عن “المظاهر المسيئة التي ظهرت خلال السنوات الأخيرة، والتي تسيء بشكل مباشر إلى حقوق المواطن… بما فيها مظاهر تخص بعض المسؤولين”. وفي اليوم التالي لذلك الخطاب؛ بدأ فرع المرور التابع لوزارة الداخلية في دمشق بتنفيذ دوريات تهدف إلى كبح استخدام الأسلحة غير المرخصة داخل المدينة. كما قامت الحكومة في الفترة الزمنية نفسها بإطلاق حملة قمع في حلب، وقامت بتجميع مقاتلين مسلحين من الجماعات الموالية، في أحياء الأعظمية والأكرمية وسيف الدولة في حلب.

قامت الحكومة، في ربيع عام 2017، بنزع حق تلك الميليشيات في حمل بطاقات هوية عسكرية، كانت تسمح لعناصرها بالمرور بسرعة على حواجز التفتيش التي يُجبر السوريون العاديون على الانتظار عليها، ويعود السبب في إلغاء ذلك الامتياز جزئيًا إلى أسباب أمنية؛ حيث أصبح من السهل على الثوار الحصول على بطاقات هوية عسكرية، واستخدامها في المرور عبر الحواجز، وشن الهجمات. ولكن وفقًا لمحادثاتي مع مصادر محلية، قد تم سحب ذلك الامتياز، بسبب الشعور المتزايد لدى السوريين، في المناطق الخاضعة لسيطرة النظام، بغرور مقاتلي الميليشيات وتضخم شعورهم بالأهمية. أظهرت خطوة الأسد أن أفعال الميليشيات قد أصبحت تشكل عبئًا على شرعية النظام الشعبية، وأن تجاهله مخاوف السوريين الموالين له ظاهريًا سيكون مكلفًا على حسابه الخاص.

“اسمي هو اسمي”

إضافة إلى التهديدات لشرعيته الشعبية، كان لا بد للأسد من أن يخشى، بدرجة مماثلة، من خسارته الممكنة لاحتكاره القوة القسرية لحساب حلفائه المحليين. مع ذلك، لم يستطع أي تحليل لوضع سورية الخاضعة للنظام أن يثبت قدرة أي ميليشيا واحدة أو مجموعة ميليشيات، على إظهار الاستمرار في إظهار تفوق قوتها القسرية ضد النظام؛ حيث إنه من شأن اتجاه كهذا أن يبرهن على ضعف يد النظام، وقد يتنبأ بفوضى على الطريقة الصومالية. ولكن تظهر تحليلاتي الكمية للصراع، والتي نفّذت عبر مراقبة عدة مصادر، كالمرصد السوري لحقوق الإنسان، عدم حدوث ذلك ببساطة.

بل على العكس، أظهرت حوادث عدة قدرةَ النظام على فرض إرادته على الميليشيات الموالية سيئة السلوك، ولنأخذ على سبيل المثال تفكيك لواء (صقور الصحراء)، والذي كان، في وقت سابق من هذا العام، أحد أكثر الميليشيات الموالية للنظام فاعلية وظهورًا. وفي وقت مبكر من عام 2017، بينما كان الأسد متجهًا بمرافقة موكب صغير إلى بلدته الأم القرداحة، بهدف زيارة قبر والدته، اعترضته مجموعة مسلحة يقودها إبراهيم جابر، الشقيق الأصغر لقائد (صقور الصحراء) محمد جابر. قام حراس إبراهيم الشخصيين برفع مسدساتهن في وجه الأسد وموكبه، دون أن يعرفوا بوجوده داخل الموكب. كانت ردة فعل الأسد أن رمى إبراهيم في السجن، كما قام -على القدر نفسه من الأهمية- بتحجيم لواء (صقور الصحراء) الخاص بمحمد، عبر تقييد تحركاته، ومن ثم حل المجموعة. لا يمكن التقليل من كفاءة صقور الصحراء القتالية؛ فقد كانت واحدة من بين قلائل الميليشيات الموالية التي من الممكن الاعتماد عليها لتنفيذ العمليات الهجومية، ولطالما أسرعت تلك المجموعة في عبور البلاد لمساعدة وحدات الجيش السوري الأضعف منها، في أثناء تعرضها لهجوم ما، على سبيل المثال في مدينة اللاذقية، معقل النظام. إذًا، لماذا كان الأسد على استعداد لتفكيك إحدى أشد وحداته القتالية فاعلية؟ على مستوى شخصي، شكل ذلك الفعل انتقامًا ضد مجموعة رفعت أسلحتها في وجهه. وفي الوقت ذاته، ساهمت تلك الخطوة في إرسال رسالة مهمة للميليشيات الموالية الأخرى، مفادها أنه لن يتم التسامح مع حوادث العنف المستهترة، وعلاوة على ما سبق، فإن الأسد ما يزال محتفظًا بالقدرة على التصرف حيالها. كان عدم الرد بقوة سيعني علامة ضعف، ووفقًا لأبحاثي، لم تثِر أي ميليشيا أخرى ردة فعل مماثل من النظام؛ ما قد يقترح أن الأسد لم يحتاج، ببساطة، إلى التحرك ضد أي منها بتلك الطريقة الدراماتيكية.

كان الشقيقان جابر، أيضًا، مهربين بارزين، ومن دون شك، كانوا معروفين للنظام الذي اعتمد عليهما في العديد من الجبهات. ولربما عنى نفوذ (صقور الصحراء) المتنامي أنها كانت ستُحجّم من الأسد في لحظة ما، وكانت مخالفة إبراهيم عذرًا مناسبًا ببساطة. وبغض النظر عن الأسباب، فقد أظهر الأسد أخيرًا امتلاكه للإرادة والقدرة على حل الميليشيا، عندما شعر بضرورة القيام بذلك.

الصراع حقيقي

تظهر قدرة الأسد على الترف ضد الميليشيات الموالية، عندما يشاء بأن توازنَ القوةِ ما زال في مصلحة النظام. ولكن ذلك لا يعني أن الميليشيات لا تشكل مشكلة؛ حيث قد يضطر الأسد في نهاية المطاف إلى مجابهة الميليشيات الجشعة أو ذات النفوذ المتنامي، بشكل متتابع لبعض الوقت. ولكنه سيستطيع إلغاء امتيازات واستقلالية تلك المجموعات في أي وقت، باستخدامه قوته القسرية العليا. ما تزال القوة والسلطة في سورية الخاضعة لسيطرة النظام، على الرغم من لا مركزيتها وعسكرتها، تمران عبر الأسد، حتى الآن، ووفقًا لخط سير الحرب الحالي، يبدو أن الموازين ستستمر في الانقلاب لصالحه.

لكن حالما تبدأ الحرب بالاقتراب من نهايتها، فاسحة المجال أمام مرحلة ما بعد الصراع طويلة الأمد، فلن يقاتل الأسد التهديد المتناقص للقوات الثورية الواقفة ضده فقط، وإنما سيعيد النقاش حول نظامٍ لطالما بني على امتيازات انتقائية، وحكم شخصي وفساد ومؤسسات أمنية متداخلة. يواجه هذا النوع من الاقتصاد السياسي “تكاليف تعاملات” باهظة، سيستخدم من أجلها الأسد أي مساهمة مالية دولية، من أجل إعادة إعمار سورية، في إعادة تدوير عجلات آلاته.

تُوجِب معرفتنا بذلك على المانحين الغربيين إحجامهم عن تمويل أي عمليات إنعاش أو إعادة إعمار في سورية، على الأقل في هذه المرحلة المفصلية. لا يكترث نظام الأسد بالشروط السياسية التي سيأتي بها التمويل الغربي، وستستخدم أي أموال لإعادة الإعمار، بكل تأكيد، في شحذ العجلات المذكورة أعلاه، تمامًا كما أكد الأسد أن الأشخاص القريبين من النظام سيستفيدون من عقود الأمم المتحدة لإيصال المساعدات الإنسانية. إضافة إلى أن أي تدخل قد يزيد، من دون قصد، قوةَ الميليشيات الموالية، ما قد يؤدي إلى المزيد من عدم الاستقرار.

على الفاعلين الغربيين أن يخصصوا مزيدًا من الموارد، للبحث وجمع المعلومات الاستخبارية عن تلك الميليشيات الموالية، ولرصد الوضع الراهن بينها وبين النظام. لقد تم التقليل من شأن مرونة الأسد، والتي ستستمر على الغالب في سورية ما بعد الصراع، ولكن لا ينبغي أن ننظر إليها كأمر حتمي.

نيك غرينستيد: مستشار مستقل في منظمة “Fragility and Conflict” يركز على قضايا المشرق. أمضى معظم سنوات عقده الثاني من العمر، في العمل والدراسة، في الأردن وسورية ولبنان. يحمل شهادة ماجستير في العلوم السياسية من الجامعة الأميركية في بيروت، وكتب بشكل موسع عن الاقتصاد السياسي والترتيبات الأمنية الهجينة، في سورية والعراق ولبنان.

العنوان الأصلي THE (LAST) KING OF SYRIA: THE FEUDALIZATION OF ASSAD’S RULE الكاتب نيك غرينستيد

NICK GRINSTEAD المصدر War on the Rocks/ 22 تشرين الثاني/ نوفمبر 2017 الرابط https://warontherocks.com/2017/11/the-last-king-of-syria-the-feudalization-of-assads-rule/ المترجم أنس عيسى


أنس عيسى


المصدر
جيرون