الشخص والماهية



كتب الفيلسوف المغربي عبد العزيز لحبابي، سائرًا على خطى الفيلسوف الفرنسي “مونيه” صاحب الشخصانية، كتابًا بعنوان: (من الكائن إلى الشخص). فالكائن هو الإنسان الخام بالمعنى البيولوجي، الكائن الطبيعي، فيما الشخص هو الكائن، وقد صار ذا ملامح ثقافية فردية أخلاقية وإرادة حرة تميزه.

إذًا الشخص والذات -بهذا المعنى- شيء واحد. فالكائن يصير شخصًا؛ إذا تحول إلى كائن فاعلٍ واعٍ حرّ، يحقق وجوده الحر في حقل الجماعة، وليس في حقل الفردية والانعزال.

نُخلص من هذا إلى القول: إن الشخص موقف من ذاته، وموقف من غيره، بل موقف من العالم. الشخص موقفًا يعني الشخص ماهيةً.

الشخص ماهيةً لا يعني أن الشخص قد تحول إلى ماهية دائمة، وإلا؛ فقد الشخص ما يجعله دائم التحول في شخصيته. وهذا ما عناه “سارتر” بقوله إن الشخص الذي تحوّل إلى هوية دائمة هو وجود في ذاته، كوجود الأشياء. لأن الأشياء وحدها التي تنطوي على ماهية لا تستطيع أن تتجاوزها. وهذا الذي دفعه إلى الحديث عن الوجود لذاته، الوجود لذاته الذي يسبق ماهيته دائمًا.

الشخص في تحولاته هو ماهيات متحولة ومتغيرة، فالشخص يتجاوز ذاته على نحو دائم، وهذا التجاوز الدائم، من قِبل الشخص لذاته، يعني أنه يتجاوز مواقفه ويجددها ويغيرها، وهكذا.

لا شك أن الشخوص مختلفة في الإمكانات التي تنطوي عليها، ومن الصعب أن نتحدث عن كل الشخوص معًا. فالشخص فرد واحد، وليس هناك شخص يشبه شخصًا، حتى لو كانا في حزب سياسي واحد. ولأن الشخص على هذا النحو؛ فهو الذي يُسأل وليس أحد غيره.

والآن، أين تكمن ماهية الشخص؟ في حاضره، أم في ماضيه، أم في حاضره وماضيه معًا؟ ودعوني أجعل من بعض المثقفين حقل جواب عن هذا السؤال، لأنهم أكثر الشخوص فردية، وأكثر الشخوص تحولًا في الماهية.

الكل يعرف الشيوعي المصري عادل حسين صاحب كتاب (الاقتصاد المصري من الاستقلال إلى التبعية)، فهذا الشخص الصادق في تحولاته نموذجٌ لما نحن بصدد الحديث عنه، فهو من شباب مصر الفتاة. ثم أصبح ماركسيًا – شيوعيًا أي أصبح عضوًا في الحزب الشيوعي. قضى سنوات عشر، بسبب شيوعيته، في العهد الناصري؛ ثم ما لبث أن أصبح مدافعًا عن الناصرية بشدة، وناله ما ناله من ذلك، أيام أنور السادات، ثم طلّق الناصرية ووعيه الماركسي؛ وتحول إلى الإسلاموية، وأسس “حزب العمل” الذي راح مع الأيام يرفع شعار “الإسلام هو الحل”، وتحالف حزبه: حزب العمل، مع الإخوان المسلمين.

بعيدًا عن أي تقويم، إيجابيًا كان أم سلبيًا، فإن التحولات في شخصية عادل حسين هي تحولات حقيقية في الماهيات التي كانها. لا شك بأن هويته الإسلاموية هي التي حددت وجوده الأخير، وأتت على ماهياته الماضية. ولكن هل ماهيته الأخيرة التي أتت على الماهيات السابقة التي ظهرت في الكتابة تلغي أهمية ماضيه؟ لا تلغي أهمية ماضيه لمن شاء، بل ليس هو ذاك. ليس هو الشخص الذي كانه. وقس على ذلك ماهيات روجيه جارودي، وانتقاله من دين الشيوعية إلى دين الإسلام. وانتقال محمود أمين العالم من الوجودية إلى الماركسية.

لا شك أنّي ضربت أمثلة واضحة ومعروفة ولمثقفين قضوا. لكن تحولات ماهيات الأحياء الذين لا نرغب في ذكر أسمائهم يتحولون اليوم إلى موضوع تقويمي لا دراسي. وآية ذلك أن الثورات العربية قد أظهرت الماهيات المختلفة للمثقفين، على نحو غير متوقع من جهة، ولأن الموقف أخلاقي من جهة أخرى. ففي المواقف الأخلاقية يصدر حكم تقويمي على ماهية الشخص. فما زال مؤرخو الفلسفة المعاصرة يتناولون موقف “هيدجر” من النازية، وقبوله منصب رئيس جامعة برلين أيام هتلر، وتعاطفه معه. ويعتبرون موقفه هذا موقفًا لا أخلاقيًا.

لقد أظهر المثقفون ماهياتهم في الموقف من الثورات، حتى صار الموقف هو الماهية الكاملة للشخص وكل الماهيات الماضية الأخرى لم تعد ذات قيمة في النظر إليه.

يُحكى عن شخص ناضل ضد النظام، ودخل السجن -بسبب نضاله ذاك- مدة خمس عشرة سنة؛ ثم اختار أن يكون ضد الثورة إلى جانب النظام! ويُحكى عن شاعر كان يمثل دور الضحية دائمًا، وهو موظف في وزارة الثقافة، ويكتب شعر تشاؤم وحزن ويأس، بنوع من العدمية الوجودية، وإذا به يمجد المحتل والبراميل المتفجرة. وقس على ذلك. لا شك بأن ماهية هذين الشخصين وما شابه ذلك تتحدد الآن بوصفها وجودهما الآن. لأن الماهية توجد، ووحدة الوجود والماهية تُعبّر عن الشخص الآن، فيما الماهية الماضية ليست وجودًا، لأن الشخص صار آخر، صار وجودًا جديدًا انطلاقًا من الماهية الجديدة.

تتعين ماهية الشخص الكاتب في الكتابة، الكتابة موقف يقول بلسان صاحبه: هذا أنا الآن. هبْ أن الكاتب قال كنتُ كتبتُ في حينها، ولكن الآن لي رأي آخر، إنه الآن، على أساس رأيه الآخر، آخر بالقياس إلى الشخص. والتقويم الأخلاقي يكون تأسيسًا على الآن، لأن الآن هو -كما قلنا- وحدة الماهية والوجود.

لو تركنا جانبًا الماهية الأخلاقية، وعدنا إلى الماهية الفكرية للكاتب “المفكر”، “الفيلسوف”.. إلخ؛ فأين تكمن ماهية المفكر: أفي مؤلفات الشباب أم مؤلفات الكهولة؟ إن المفكر يترك خلفه إرثًا للقراءة الحرة من قبل الجميع، وكل يملك الحق في أن يرى في هذا الجانب أو ذاك حقيقة المفكر. فالكل يعرف الاختلاف حول إرث ماركس، وكان السؤال في الستينيات يدور حول أين هو ماركس الحقيقي: أهو في الأيديولوجيا الألمانية أم في رأس المال؟ هذا السؤال لا علاقة له بالتأويل بل بماهية ماركس، ولهذا جاءت الأجوبة على ثلاثة أنحاء. 1 – ماركس الحقيقي هو مؤلفات الشباب 2 – ماركس الحقيقي في مؤلفات الكهولة 3 – ماركس الحقيقي في المرحلتين معًا ولا تناقض.

وضع المفكر والفيلسوف والكاتب عمومًا يختلف عن وضع الإنسان العادي؛ ذلك أن ماهيته قابعة في ما يقرأ، لا في ما يفعل، إنه في ما يفعل شأنه شأن الشخصية العادية. فهو يحب ويكره، ويتخذ هذا الموقف أو ذاك… إلخ.

أما في ما يتعلق بالموقف السياسي، وبخاصة في اللحظات الحاسمة، فماهية الشخص -كاتبًا أو عاديًا- خاضعة لتقويم المختلفين حول الشخص، انطلاقًا من اختلافهم حول الوقائع والأحداث. فسمير القنطار كان في كل سنوات أسره شخصية أثيرة، لدى من هو معادٍ لإسرائيل، واتّحدت ماهيته بوجوده، بالنسبة إلى الكثيرين، على أنه شخص مناضل وثائر. فيما هو من وجهة نظر أخرى مجرد قاتل لمجموعة من الأطفال اليهود الأبرياء، ثم بعد خروجه من الأسر وانتسابه إلى “حزب الله” واشتراكه في القتال إلى جانب النظام الحاكم في دمشق؛ تحوّل -لدى الأكثرية السورية- إلى مجرم، وظل، بالنسبة إلى مؤيدي النظام و”حزب الله”، مقاومًا. إذًا هو مناضل وقاتل ومجرم، انطلاقًا من الموقف السياسي للآخر. هل يعني هذا أن ليس هناك معيار موضوعي للحكم على الشخص وماهيته؟

إذا نظرنا إلى سمير قنطار في آخر أيامه، من وحدة المعيار الأخلاقي – السياسي في النظر إلى حق الشعب السوري في الكفاح ضد الدكتاتورية، وفي سبيل الحرية؛ فهو شخص مجرم، لأنه وقف إلى جانب الدكتاتور. إذا نظرنا إليه من معايير السياسة اللزجة؛ فهو صوره عند المختلفين.

القول يصح، لدى النظر إلى من كانوا ضباطًا ووزراء ورجال أمن.. الخ، لدى السلطة الحاكمة، ثم اختاروا أن ينشقوا عن النظام، ويندرجوا في صفوف الثورة، فهم شخوص بماهيات جديدة، وجودهم هو الآن ماهيتهم. وهذا المستوى من الفهم لا يلغي الأثر السلبي لشخوصهم الماضية. وهكذا.

وأخيرًا، يجب أن لا نخلط بين الماهية والهوية، على الرغم من التقارب الشديد في المعنى. فقد تواضعنا -فلسفيًا- على أن الماهية هي ما تميز الشخص بما قرره بحرية، أو بما فرض عليه من قبل الآخر ويقبل التجاوز، لذلك قال سارتر “الوجود سابق على الماهية”، أي الوجود الإنساني، كما أشرنا، وبالتالي الماهية متحولة دائمًا. فيما الهوية هي سمات تتميز بالثبات والثبات النسبي. وهذا رأينا المختلف عن آراء بعض الزملاء الذي يحتاج إلى شرح، في مقالة خاصة.


أحمد برقاوي


المصدر
جيرون