بنية القانون العلمي



من القضايا الأساسية التي يواجهها العلم، في أيامنا هذه، قضية تحدي الخرافة، في جميع مستوياتها التاريخية والاجتماعية والمنهجية، والتي يمكن لأي مراقب لحركة تطور المجتمعات ملاحظتها، في سياقات فكرية واجتماعية شتى. وكما هو معروف، إن المنهجية العلمية التي ننعم بإنجازاتها اليوم في شتى الميادين قد تبلورت على مدى أكثر من 300 عام، فمنذ عهد (غاليليه) و(نيوتن)، تمت المباشرة في بناء الصرح في البحث والتجريب العلمي، وقد أُسس لهذه الطريقة في التفكير على يدي فرانسيس بيكون، مطلع القرن السابع عشر؛ فكانت الثورة الصناعية في أوروبا، إضافة إلى المنجزات الإبداعية الصناعية التي مهدت السبيل لتحدي النظرة التقليدية للتفكير، وبعد النقلة التي خاضتها أوروبا في تأسيس العلمانية، والتي دعا من خلالها آباء الكنيسة -بعد أن تبين لهم خسارة المعركة تجاه العلم في الميدان المعرفي- إلى فصل الديني عن الاجتماعي، والكف عن ملاحقة المفكرين والعلماء، بدعوى الهرطقة والتجديف على الله. لقد أصبح النسق الفكري العلمي منذ تلك الآونة طليقًا؛ فكانت الجمعيات العلمية التي شكلت تطلع النخب العلمية في تحالفها مع البرجوازية، مساهمة بذلك في إثراء البحث والتجديد الفكري، في مجالات متعددة، ولم تعد هولندا فقط هي المقصد لهؤلاء من البحاثة والعلماء، بل أصبحت القارة العجوز أوروبا بأكملها ضالعة في هذا السباق. ودون الدخول إلى أبعد من ذلك في التأريخ، حيث يبدو جليًا تراجع النظرة الميتافيزيقية، أمام المنهجية العلمية، ومنذ تلك اللحظة؛ أصبح العلم سيد الموقف، وليس أدل على ذلك من نظرة (لابلاس) السببية التي أثرت في كثير من العلوم، فقد توالى العلماء في البحث عن الأسباب وراء الظاهرات المشاهدة؛ فكان القانون العلمي بمثابة الركن الأساسي للمعرفة العلمية الحديثة، وقد شجعت التيارات والمدارس الفلسفية، منذ أيام ديكارت تلك النظرة، ومع مجيء (كانت)؛ تعضدت النظرة العلمية بالنقد الذي سمح في ما بعد بالنسبة إلى (هيجل) بتأسيس الفكر الجدلي. لقد ظلت فكرة القانون الهاجس الأساس لـ (ماركس) ولغيره من العقلاء والمفكرين.

القانون العلمي في مواجهة القانون النفسي:

إن هذا الإحلال أو الاستبدال للغائية الميتافيزيقية بالقانون العلمي، كان هو المطلب المُّلح والأكيد في بناء صرح مختلف، لا توجد فيه مسلمات غائية مسبقة، أو علل ميتافيزيقية، بقدر ما توجد أسباب ونتائج، تعضدها التجربة العلمية. لقد دأب العلماء في تدعيم المنهجية والرؤية للعالم، بناءً على تلك الطريقة. وعلى وجه العموم، يمكن تقسيم بنية القانون العلمي إلى مستويين: أحدهما مستوى نظري، وآخر إمبريقي (تجريبي). وعلى ذلك، فإن (كارناب) يقسم القوانين العلمية إلى فئتين: إحداهما نظرية والأخرى تجريبية. القوانين النظرية: هي فروض وصفية وتنبؤية تتمتع بشروط خاصة، من حيث البنية الأساسية، كالاتساق وقابلية الاستنتاج وأيضًا الاستدلال، وتكون على نمطين فهي إما تركيبية، تشمل مجموعة من الظواهر التي تتواشج وفق علاقة ما، كأن تتحلى شروطها بمجموعة من الحدود الأولية، أو ما يسمى الشروط، ويضمن القانون العلمي هنا اتساق البنية الداخلية، بحيث يفسر مجموعة الظواهر تلك، وفق مجموعة الملاحظات والأرصاد المعطاة. طبعًا يفرض مبدأ الاستقراء البيكوني (فرانسيس بيكون) الحصول على نتائج علمية من الظواهر المعطاة، وبعد عمليات متعددة من الفحص والمقارنة، من أجل الحصول على نتائج تتيح الاستقراء، ولا شك أن هذه الطريقة تعرضت للكثير من الانتقاد، من قبل المدرسة الوضعية وغيرها؛ ذلك أن ما يفرض حدود التجربة هو التخمينات العلمية، وما يعطي إمكانية إجرائها هو اقتراح نظري يقدم فيه العالم طرق اختبار النظرية من قِبله، ومن قِبل أعضاء المجتمع العلمي. ومن أجل تفنيد تلك الدعاوى يجب إجراء التحقيق التجريبي بأكثر من طريقة، للتأكد من صوابية النظرية، والأخذ بتفسيراتها وتنبؤاتها مأخذ الجد بشكل صارم. ودون الدخول أبعد من ذلك في السياق الإبستمولوجي (المعرفي)، فما يهمنا هنا هو كيف يجابه القانون العلمي–القانون (النفسي)؟ أي المعرفة الموضوعية، في مقابل المعرفة النفسية في مستوييها: الذاتي والجمعي. من هذه النقطة ينفتح لدينا الكثير من النظريات في تفسير الواقع النفسي وارتقائه لمستوى العقيدة (الدوجما Dogma)، ونحن هنا أمام نمطين من الواقع، على حد تعبير (يونغ)، أحدهما موضوعي (واقعي)، والآخر هو واقع نفسي. ولا يغرب عن البال أن رسوخية الواقع النفسي، على المستوى الجمعي، أقوى وأعتى بكثير من المعرفة الموضوعية، والأمثلة من تاريخ العلم لا حصر لها، بل حتى من تاريخ الفلسفة بحد ذاتها التي كانت تشكل الإنتاج العقلي الأرفع، والتي أسست لعلم المنطق (الصوري والرمزي)، فنحن هنا -بشكل من الأشكال- أمام جدلية العقلاني في مواجهة اللاعقلاني. لقد ارتهن العقلاني بحيثية الواقع التجريبي، بأكثر أنواع العُرى وثوقية، على العكس من اللاعقلاني، فقد كان الجانب المظلم والداخلي من المعرفة الإنسانية. إننا هنا أمام قطبان: أحدهما إيجابٌ وفعل، والآخر سلبٌ ونفي. وما بينهما من قوة توتر، يجد الإنسان فيها فضاءً من الاحتمالات والوجود. ولا يغرب عن البال المساهمة المهمة، لعلم نفس الأعماق، في تحليل ذلك البعد وتلك العوالم التي وجد فيها الإنسان واقعًا مليئًا بالخيالات والصور والانطباعات، وهو الأكثر حرية وتلونًا. إن الإغراء الناتج عن طرق التفسير والتأويل نفسية المنشأ تضمن في نسيجها الخبرة البشرية للفرد في مستواها النفسي، وأيضًا خبرات الجماعة (يونغ).


إقبال مرشان


المصدر
جيرون