القدس الحاضرة في عواصم ضائعة



النية، لنقلِ السفارة الأميركية من تل أبيب إلى القدس، كانت موجودة منذ عقدين، لكنها مؤجلة التنفيذ. هكذا تم التعاطي مع ملف مدينة القدس، منذ احتلالها عام 1967، إذ اعتمدت السياسة الأميركية المراوغة، في كل ما يتعلق بملف التسوية الفلسطينية-الإسرائيلية التي تشمل وضع المدينة.

عندما تبنّى الكونغرس الأميركي، عام 1995، “قانون سفارة القدس” الذي يعترف بالقدس عاصمة أبدية لـ “إسرائيل” غير قابلة للتقسيم، لم يكن صدفةً الترويج أن الرئيس الأميركي ترامب يعتزم نقل سفارة بلاده إلى القدس، والاعتراف بالمدينة عاصمة موحدة لـ “إسرائيل”؛ ذلك أن السياسة الأميركية هيأت للاحتلال أسباب الانقضاض على المدينة، فتصرّفَ الإسرائيلي بشكل حاد وصارم وحاسم؛ إذ لا مكان للصدف، إزاء خطط التهويد والاستيطان، بعد أن باتت مُنظمةً وتراكمية للحد الأقصى.

سَمحَ التركيز المستمر على المدينة، بِخُطط الاستيطان والبناء، وبتنفيذ عمليات الهدم والطرد والترحيل منذ خمسة عقود، وببناء سدّ منيع أمام كل الأوهام العربية والفلسطينية والإسلامية الداعمة لمفاوضات، طرفها الأول بلا إسناد حقيقي.

عقدُ العزم لنقل السفارة الأميركية ليس اختبارًا لردات فعلٍ، بل هو بالأصل محاصَرة محبطة، على المستوى الشعبي، إذ إن ديباجة القدس التي كانت تزين بيانات التنديد والتأكيد على وضع المدينة، سقطت في اختبارات عربية كبرى منذ سبعة أعوام، ساهم فيها من يصرخ “تنافخًا” على القدس، في تسهيل سقوط أهمية القضية الفلسطينية برمتها إلى الانحدار.

إذا انشغل البعض في تحليل نية ترامب بعزمه على اتخاذ القرار، بشأن نقل سفارة بلاده من عدمه، والانصراف عن عدم التفكير بنية بوتين الممانع؛ فإن شواهد كثيرة يستند إليها الإسرائيلي والأميركي، ليس في عملية نقل السفارة المنشغل بها سياسة عربية وإسلامية، تُمارس اللطم على ضياع ما تعتبره “مقدسًا”، منذ أربعة عشر قرنًا فحسب، بل في شاهد ومبرر قدمته مسلكيات بعض الأنظمة والقوى لوضع النيّات موضع التنفيذ.

بعد أن أكمل العدوان الإسرائيلي إطباقه على القدس، تبقى العزيمة الأميركية والإسرائيلية بحاجة إلى تخطي عوامل نفسية وعملية، يقدمها بعض النظام العربي، من خلال مباركة الخطوة الأميركية والسلوك الإسرائيلي.

على الأقل، شهدنا، في السنوات القليلة الماضية، منذ اندلاع الثورات العربية، مشهدًا مختلفًا كليًا، بخصوص القضية الفلسطينية، يقدم الدعم والإسناد للخطوات الإسرائيلية، فبعد سقوط رواية “طريق القدس”، وهي الرواية الأهم التي يقرأ من فصولها الإسرائيلي والأميركي، لتجسيد الأحلام التوراتية، من خلال إعادة التعريف بالمقدسات الواجب دعمها؛ أصبح لدينا مقدسات متراكمة في عدة عواصم عربية وإسلامية، من طهران إلى القاهرة، مرورًا بالرياض ودمشق وضاحية بيروت الجنوبية وبغداد وصنعاء.

لا نبلغ حد المبالغة، إن قلنا إنّ القدس أو المقدسات تَنحدِر مكانتها ليس بطول فصولها، بل بما يقدمه نظام فاشي في دمشق مدعوم من طهران التي تذرف دموعها في مناسبات اللطم التاريخي على القدس، من مبررات لتسريع الخطى تهويدًا، وحتى نسفًا للمسجد الأقصى.

الأسئلة الساذجة من قتل الفلسطينيين على يد سفاح الممانعة إلى استيراد فيلق باسم “القدس” مأجور طائفيًا، لقتل السوريين والعراقيين والفلسطينيين واليمنيين، تأتي إجابتها الفصيحة من ترامب ونتنياهو، لكن ما المأمول من سياسة عربية، يحكمها قتلة ومستبدون وطغاة، تجاه قضايا أخرى تطرق عقل الإنسان العربي، غير تقديم فصاحة القتل والدمار، براميل وصواريخ ممانعين دمّرت آلافًا من مساجد ومقدسات السوريين، وجرفت تاريخ بلدهم، بما يتفوق على التهويد المحفوظ بذاكرة شعب يقاومه منذ قرن.

لمَ لا يُقدِم ترامب على خطوته في نقل السفارة؟ طالما أن الإدارة الأميركية تغدق مختلف أنواع الدعم لـ “إسرائيل”، ولمَ لا يكون هناك خطوات أكثر “جرأة وفصاحة” في العدوان، مُستمدة من الجوار! يتلقى ترامب مكافأته المالية من النظام العربي، وتسقط من أمام نتنياهو موانع نفسية وأخلاقية وسياسية، يعمل جزار دمشق على إزاحتها من طريقه نحو القدس، ويعمل قاسم سليماني قائد “فيلق القدس” الإيراني على الفتك بأجساد من سيغضب للقدس، فيما تقوم طهران بنصب مقدساتها، في عواصم تضيع بجانب أحلام تلمودية تتحقق هناك، وأحلام بحُرية تُجهض في عواصم الغاضبين.

القدس التي يحلم بها الممانعون، في طهران ودمشق وبيروت، تتجسد في الخراب الذي خلفته أساطير الاستثمار في الطغيان، وفي منابر سيئة السمعة والصيت، والقدس التي يعمل على تعبيد طرقها ترامب ونتنياهو، شق طريقها سفاحون من طهران ودمشق، وما أكثر المُقدسات وما أقل المُقَدسّين!

محنة القدس لا تكمن في جنون احتمال خطوة ترامب، ولا في استمرار سياسة الاحتلال، بل في هوس مجرمين قدّموا آلاف الذرائع لمحتلها، كي يكمل جريمته. فالقدس لا تكون حاضرة في عواصم، تتقزم سياستها، وتضمحل في قمع وقتل شعوبها. ولا تُسند بدعم وتحالف مع عواصم يقودها طغاة وفاشيون.

القدس الجوالة مع فيالق القتلة، في أزقة وشوارع سورية وعربية، هي المجسدة أمامنا اليوم في كرسي الطاغية المُدافع والمقاتل عن أبديته، لا نريد تباكيًا على القرارات الدولية، ولا نعت المحتل بذلك، فمن يفتك بأجساد مواطنيه، ومن يتحالف معه؛ فسيجد ضياع كل مُقدس يتمثل بالإنسان أولًا.


نزار السهلي


المصدر
جيرون