حنظلُ الوقت.. غواية الصورة



من ذا ينسى؛ تلك الجملة من عهد الصورة بالأبيض والأسود:

“الصورة.. جرسٌ يدق في عالم النسيان”

ثم صارت الصورُ ملونةً، فاستمر كثيرون بكتابة تلك الجملة خلف صورهم.. حين يهدونها لأحدٍ ما، وبخاصةٍ.. في فترة انغماسنا بالمُراسلة البريدية، مع شبابٍ وصبايا في عُمر مُراهقتنا؛ نُرسل لهم صُورنا الشخصية في طي ورقة الرسائل المُلونة، ويُرسلون لنا صُورهم.. وصُور قريتهم أُو مدينتهم أو بلدهم، وبخاصةٍ تلك الصور المطبوعة كبطاقاتٍ بريديةٍ.

أما أنا العبد الفقير لصورتي.. فكنتُ أكتبُ:

هذه ليست صورتي.. إنها ظلي فقط!

وعلّقت عليها فتاةٌ من الإسكندرية، كنتُ أراسلها، بطريقتها المصرية: “ضل تُفاح شامي.. ولا ضل حيطه”. ثم عرضَت عليّ الزواج، بينما كُنا في المرحلة الإعدادية فقط! ولم تُرسل لي صورتها.. على الإطلاق!

فتاةٌ مغربيةٌ واحدة.. هي التي أرسلت لي صورتها. ولم تكن صورتها الشخصية، بل لمجموعة طالباتٍ بلباسهن المدرسي، ثم وضعت بقلم أحمر الشفاه.. إهليلجًا حول الواقفة في أقصى يسار الصورة.. لا تكادُ تُرى تفاصيلها، قالت إنها هي!

ثم تداولنا أنا وشلة رفاقي في الصف، بشأن الفروقات بين لباس الطالبات المغربيات والسوريات، وصولًا إلى الفروقات بين حضورهن وجمالهن.. ولم نصل إلى نتيجةٍ مُقنعةٍ، حتى تاريخه! علق أحدهم: طالبْها بصورةٍ أوضح؛ مبينه هُون متل الدودة! وأضاف الثاني مُتهكمًا: أو اشتر عدسةً مُكبرةً من مكتبة القباني.. لتراها.

ثم انقطعت رسائلها؛ وعادت رسالتان إليّ، وقد كتب عليهما ساعي بريدٍ مغربي بالقلم الأحمر، بخطٍ هيروغليفي.. هكذا: “هاذا العنوان.. خاطأ”.

تتغير الصورة.. أم نحن الذين نتغير؟!

هكذا عثرتُ على جواب ذاك السؤال؛ حين ذهبتُ إلى مهرجان الشباب العربي في المغرب 1978، بصفتي أصغر كاتبٍ مسرحي شابٍ تحت العشرين عامًا؛ فأخذتُ معي واحدةً من رسائلها، عليها عنوانُها “الخاطأ”، وصورتها تلك.. وقد اصفرت بفعل الزمن.

لم يكن بين يدي في الدار البيضاء سوى تلك الصورة، وعنوان خاطئ كما كتب ساعي البريد المغربي؛ مددتُ يدي بالعنوان على غلاف رسالتها لسائق “الطاكسي”، فأخذني إليه؛ ثم توقف عند مدخل حارةٍ يُصعدُ إليها بدرجٍ طويل؛ قال: هاذي هي الزنقه، اتبع الترقيم.

لكني كنتُ أتبع حدسي فقط، ومع ذلك توقفت عند رقم البيت. لم يكن هناك جرسٌ لأقرعهُ.. كما في تلك العبارة: الصورة جرسٌ يدق في عالم النسيان؛ فقرعت عليه بباطن كفي؛ بعد قليلٍ.. انفتح البابُ عن امرأةٍ بلباس مغربي مُزركش، يتعلق بردائها طفلٌ صغير.. لم تكن المرأة تُشبهُ تلك الطالبة الواقفة في أقصى صورتها مع أترابها.. وتكاد تُرى؛ لكنها ابتسمت: إنت.. سبحان اللي جمع المغربية بالشامي!

بعد أن صبت لي كأس شاي.. غابت في غُرفةٍ جانبيةٍ، ثم عادت لتناولني صورتي التي كنتُ أرسلتها لها قبل سنوات، وحتى الآن ما زلتُ أتساءل.. أكانت تُشبهني تلك الصورة؟!

بعد هذه الحادثة، بسنواتٍ طوال، قرأتُ روايةً لأمين معلوف، يبدأ البطلُ فيها البحث عن جذور عائلته، بدءًا من صورةٍ فوتوغرافية؛ ولم أفاجأ حين رأيتُ نهاد سيريس يستخدم المفتاح الروائي ذاته؛ المُسجل حصريًا.. باسم أمين معلوف؛ في روايةٍ له صدرت، بعد رواية معلوف بسنوات! يبحث فيها بطلُهُ السوري أيضًا.. عن جذور عائلته بواسطة صورة قديمة بالأبيض والأسود، فاعتبرتُ وقع حافر صورةٍ على حافر صورةٍ أخرى.. من باب “التلاص في التناص”، على طريقة مُصطلحات نُقاد ما بعد الحداثة البُنيويين؛ بينما لا يُمكن أن تتشابه صورتان.. للمرء ذاته بين فترةٍ وثانيها من حياته، كما لا تتشابه صورتان لمشهدٍ واحدٍ.. حتى لو تم التقاطهما بكاميرتين معًا، في آنٍ معًا.

فهل تغيّرت الصورةُ حقًا، أم.. ازدادت غوايتُها؟ من الأبيض والأسود، إلى المُلون، إلى تقنيات “الديجتال” و”الفوتو شوب” إلى صورة “السيلفي” وسواها.

في أول صورةٍ التقطها لي مُصور شمسي، بكاميرا ذات صندوقٍ خشبي وكُم طويلٍ أسود.. ثم أخفى رأسه في داخله، ظهرت صورتي كالمُشتبه به، في وضعيةٍ ثابتةٍ.. حيث كان عليّ أن أرفع أكتافي؛ وآخُذ نفسًا عميقًا لأحبسهُ في رئتي؛ وأُجهد نفسي حتى لا ترف أجفاني.. بينما يعُد المُصور على أصابعه: ثلاثة.. اثنين.. واحد.

لا شيء، في تلك الصورة الأولى، يُشبهُني، سوى تلك النظرة الطفولية التي قد أخذتها الدهشة إلى غواية الصورة. هل نحن.. ظل صورنا! وهل نُشبه صورنا فعلًا! أم أنه الوقوع في الغواية، وفي الوهم الجميل.. بأننا كنا هنا ذات يوم، وكنا متأكدين بأننا سنظل في الكادر: مُبتسمين! كأننا بابتسامتنا هذه.. نعقدُ صفقة تواطئٍ مع العدسة، لنُوهم أنفسنا.. بالخلود!

ها أنا ذا اليوم، أتصفحُ الصور الرقمية التي خزنتها، قبل تهجيري القسري من بلدي سورية، حتى لكأني أعيدُ قراءة نفسي من جديد، بعد 6 سنواتٍ من القتل والدمار وجحيم الطغيان.

غادر صوري كثيرٌ من الذين صادقتُ؛ انزلق أحدُهُم منها، إلى حُضن الطاغية؛ اعتُقل بعضُهُم في سجون الطاغية، كما في سجون أمراء الحرب؛ مات أحدُهم في الاعتقال الأسدي تحت التعذيب؛ واختفى أحدُهم قسريًا “زكي كورديللو” هو وخيالُ ظله في الصورة؛ تاه آخرون مثلي.. في تغريبتنا السورية الكبرى.

حتى كدتُ أبقى وحدي.. أسير تلك الغواية التي كانت لذيذةً.. فصارت كالحنظل، وحتى شعرت بأني الذي قد تغيّرت.. خارج زمان الصور وأمكنتها ولحظاتها المُختطفة من أعمارٍ وأرواحٍ وأجسادٍ تستعصي على تحولاتها، وكأنها في الصورة وحدها.. تُقاربُ خلودها؛ لتُقاوم الموت!

*اللوحة بريشة كاتب المقال


نجم الدين سمان


المصدر
جيرون