وحش الذاكرة
5 كانون الأول (ديسمبر - دجنبر)، 2017
فاقدًا رغبته بالقتل، ذات فجر، سينهض الوحش محشورًا داخل جسده الضيّق، كئيب الروح، مقبوض القلب، هشّ العزيمة، زائغ البصر، مشوه البصيرة. سيزحف على بطنه الخاوي راحلًا على غير هدى، في أحسن الأحوال، منبطحًا سيجانب صخرة شاهدة على ضحاياه، إلى أن يَنفُق وحيدًا تحت الشمس، فوق تلةٍ من صور ناقصة سقطت منها الألوان وعنها الملامح، وأصوات مهجورة الأحرف بعيدة الصدى… وآجلًا، سوف تجد هذه الحرب الحائرة نهاية المتاهة، ستتبع أتجاه جريان نهر الدماء.
خرجت الحرب الهرمة من النفق حُبلى، فما إن مسّها النور ولفحتها نسائم الضوء، حتى دخلت في المخاض، بيسر المجزرة الباردة السريعة متقنة الرسم مُحكمة التخطيط، طريّة اللحم، وضعت الحرب مولودًا مسخًا، ثم بدأت بالاحتضار، بصعوبة استجمعت أنفاسها المتلاطمة وقالت: يا بني يتّقد الماضي؛ كلما أصبح الحاضر باهتًا، عُد من حيث أتينا، ابحث عن أبيك حتى تجده، فتقتله، ولا تنسَ أنّي أسميتك “ذاكرة”.
كيف لي أن أعرفه؟! ماتت الحرب، قبل أن يحصُل منها على جواب.
حفر لها لحدًا عميقًا في صدره، دفنها، وأهال عليها كسرات زجاج. مضى “ذاكرة” دون أن ينظر خلفه، ودخل النفق الذي خرج وأمه منه. كان قد ضاع “ذاكرة” في المتاهة دهرًا، قبل أن يصل ويخرج إلى الضفة الأخرى؛ فيجد وحشًا سقيمًا يلهث كالمطعون برمح مسموم، ممددًا إلى جانب صخرة حمراء كبيرة، ما زال الوحش على قيد الحياة.
– أبحث عن أبٍ لي.
– ما أنت؟ سأله الوحش.
– أنا ذاكرة.
تقلّص الوحش على نفسه، ونجح في رفع رأسه قليلًا، زمّ عينيه الغائرتين، ونظر إلى “ذاكرة” طويلًا، بتمعّن الأعشى الذي ينظر إلى مرآة عبر سراب أو ضباب، رمى برأسه على الأرض ثم قال:
– برهن لي أنك ذاكرة، وستعرف أبيك.
بدأ “ذاكرة” يفيض على الفور، كالبركان:
– سيظهر ألف سالم ابن ربيعة بينهم، في كل لحظة ستولد لهم يمامة، سيبقى صوت الرعد يستحضر قصف الطائرة، قبل أن يدركوا المطر، وومض البرق سيحاكي ارتطام الصاروخ على عتبات منازلهم، إلى زمن من مسد، سيبقى وميض الكاميرا يُربك وجوههم بين موقفين، ابتسامة لازمة، أو الرعب سابق الانفجار، سيكون صوت مطبعة الكتب مُلازمًا لصوت ارتجاج البنادق، ووفرة علب الحليب المكدّسة على رفوف المحال، سيعمل كمعول ينبش أرواح أطفال قضوا جوعًا، تحت الحصار، سيبقى خفق أجنحة الحمائم يطابق مروحة القذيفة الهابطة خلسة بصمت، سيبقى أزيز نحلة تجمع الرحيق أشبه بصوت رصاص مَرّ سريعًا فوق رؤوسهم، سيبقى خلع غطاء زجاجة البيرة أشبه بصوت كاتم الصوت، ستتطابق ضحكاتهم مع صراخ معتقلين كثيرين قضوا تحت التعذيب، سيكون الطلّ الصباحيّ رعبًا كغاز السارين..
قاطع هياجه الوحش بحشرجة عالية، وشهقات سريعة عميقة متوالية.
صمت “ذاكرة”، ونظر إليه قليلًا، ثم باشر بدفن أبيه فوق تلةٍ من صور ناقصة، وأصوات مهجورة بعيدة الصدى.
*اللوحة للفنانة زاريا زردشت
جهاد عبيد
[sociallocker]
جيرون