دراما الموقف البصري وملاحم الفاجعة التجريدية



لكل فنان تشكيلي، وخصوصًا السوري، قصته ومعاناته وأحلامه، ولعل حكاية الفنان التشكيلي السوري خالد الخاني تأخذ، في يومياتها ومدونات ذكرياته، حالة خاصة ومتفردة، ما بين أقرانه. حيث عايش مجازر حماة عام 1982، وشاهد مقتل والده وأقربائه بأم عينيه، وهو طفل لم يكن قد بلغ من العمر سبع سنوات.

خالد الخاني من مواليد مدينة حماة، عام 1975، قادته موهبته المبكرة إلى دراسة الفنون التشكيلية أكاديميًا، في مركز “سهيل الأحدب” للفن التشكيلي في مدينة حماة، وهو في السادسة عشر من عمره، ليفسح المجال لهوايته بأن تأخذ طريقها الصحيح في تحقيق مراده، بمتابعة الدراسة في كلية الفنون الجملة بجامعة دمشق، وكان له ما أراد، إذ تخرج في قسم التصوير عام 1998، ثم استكمل طريقه عام 2000 بالالتحاق بقسم الدراسات العليا، في التخصص الأكاديمي ذاته.

ما بين معرضه الشخصي الأول، في صالة “شورى” للفنون الجميلة بمدينة دمشق عام 1999، ومعارضه المتجددة في مدينة باريس منذ سنوات الثورة السورية للعام 2012، ثمة حالة من النضوج الفكري والشكلي في مضامين لوحاته، تلك المعمدة بخبرات تقنية مُستفادة من جميع تجاربه، ويُلاحظها المتابع لمسيرته الفنية فكرة وشكلًا ومضمونًا، وآليات اشتغال تقني، وتلمس مقدرته في بناء عمارة نصوصه البصرية المسرودة والمنثورة على سطوح الخامات. وهي تُنادم مخزونه العاطفي المُعبر عن نوازعه الذاتية الراصدة لتلك اللحظات الفارقة والمصيرية في حياته، والموصولة بخفقان قلبه ومُدركاته الحسيّة الدائرة في مدارات مواجعه المكبوتة. حيث يرصفها قصصًا تصويرية تعبيرية رمزية، في طرق حبكاته الشكلية التجريدية المتواترة، وتفتح بوابة مكنونه الشخصي، في درامية الوقع والإيقاع الناقلة لحقيقة “التناص” الوصفي لتلك المجازر التي حملها في ذاكرته الحافظة، وبما تحمل خلفياتها من سجل الذكريات والقصص واليوميات المؤلمة التي لاحقته، منذ طفولته، على يد الطغمة الأسدية الحاكمة، في مجازر حماة عام 1982.

لوحاته جميعها هي ترجمان ذاته الباحثة والمُجربة والحاملة رسالة فنية، ذات مضمون وشكل ومعنى وهدف سامٍ تقف وراءها، مصحوبة بتعبيرية رمزية وسرد حكائي، تأخذ سمات الملحمية الدرامية للقص البصري لحكاياته الملونة، تلك المُناهضة في محتواها الفكري وفلسفتها الوجودية والجمالية لجميع مظاهر التسلط والاستبداد والفساد، وتولي الأهمية القصوى لإبراز المواقف الإنسانية في جمل ونصوص تشكيلية، مليئة بالمعاني وفضاءات من الحرية المتناثرة في توليفة بنيتها المعمارية، والتي تُقارب في طقوسها وحركية شخوصها الأساطير القديمة، بكل ما فيها من دراما وأحزان ونبل فكرة وبيان، يُمكن تسميتها مجتمعة بدراما الموقف البصري.

مسرحة الواقع ولعبة الطغاة هي الأكثر تداولًا، في نصوصه السردية، تأخذ أشكالًا متماثلة في هيئتها وموقعها داخل أسوار محطاته الوصفية، تفوح منها حداثة تعبيرية متشحة بمفاتن تجريدية حاشدة، كحلة شكلية مُتناغمة مع حركية الوصف ورقص الملونات. تبني عالمًا افتراضيًا يختزل الواقع المعيش والموصول بمسارات اللجوء السوري الدامي، في طرق الموت المتوقع في البحر أو البر، والتي لها مُتسع ومكان لتصويرية مدروسة في حسبة تراجيدية عاكسة وكاشفة لمناطق الآلام في التغريبة السورية غير مسبوقة، في أزمنة العرب المعاصرة.

شخوصه -في جميع لوحاته- مُختزلة من تفاصيلها الشكلية، وتغدو بلا ملامح واقعية، تسبح في تعبيرات محاكيه لمسارات التيه السوري، ومعابر الموت المُحتمل، والنجاة المأمولة. وجوهه التعبيرية مسكونة برهاب الخوف الذي استوطن في نفوس غالبية السوريين، وما تعرضوا له من بطش النظام وأدواته القمعية ومخابراته، في هيئاتها الشكلية أو في ملوناته المحزونة أيضًا، والمشبعة بلون الدم ومسيرة الأحزان وسوداوية المشاهد. تجد في ثناياها قصصًا لا متناهية من مساحات الألم والضياع والخوف المُقيم، مُحملة بنفحاتها التجريدية والمتسقة والمتناسقة بيد ماهرة، تصل الوصل ما بين جميع التعبيرات التشخيصية، بضربات الريشة تارة، وحركية سكين الرسم تارة، وتداخل الملونات دسامة أو ليونة في كثير من الأحيان، مربوطة بخيط شكلي جامع لتآلف المساحات والخطوط الملونة التي تخفي في ظلالها تلك الوجوه الخائفة والشخوص القلقة والمتعبة والمحزونة.

التشخيصية التعبيرية التجريدية هي ميدان بحثه الفني والتقني، وجماع بحثه التراكمي، وهي التي تولي حركة الشخوص في وجوههم وأجسادهم ودثارهم ومتوالياتهم، المرصوفة كعناصر ومفردات تشكيلية مقابلة أو مجاورة أو مباعدة، وعلوًا وهبوطًا، الأهمية الكبرى لرصف مفاعيل مكوناته التشكيلية التي يوظفها، في كل لوحة من لوحاته. وكأنها أشبه بكتاب قصص بصري مفتوح على تجليات الألم والمغامرة والحرية والانعتاق والمحبة ورياح الأمل، وتشدو من خلال فتنتها البصرية المنشودة في طرق تعبيرية موحدة الإيقاع الشكلي للمكونات. قد تجد في متنها مكانًا ما للحكواتي الرسام والملون الفنان الذي يعزف تقاسيم نصوصه المتناسلة من واحة نظام الاستبداد المُغلق أبدًا على المظالم والمجازر والفساد تارة، وتارة أخرى ترنو رسم مفاتيح الأمل والمحبة المتوارية في حركية الشخوص الذكورية والأنثوية. كل لوحة من لوحاته هي “موتيف شكلي”، وتلخيص بليغ لصور المعاناة ومساحات التيه والوجع، وقطعة موسيقية تشكيلية مُتكاملة الأنغام، لصوغ معزوفاته التصويرية التي تعكس رؤى رمزية متعددة لتفاصيل حكاياته المُستدامة، عنوانها الرئيس رفض الواقع الظالم وأدوات القهر والقمع والاستبداد.

تقنيًا، اعتمد على امتداد الكتل الشكلية المتآلفة، من حيث الكسوة والطلاء اللوني، والمرصوفات الشكلية، تجاورًا ومقابلة، وفي مختلف الجهات متطاولة مع أبعادها المنظورة فوق خامات السطوح، تُمسرح الموقف الشكلي بملامحه الهلامية درامية المحسوس الشكلي في تجليات اللمسات الحسيّة لهيئات الشخوص. يُدرجها في سياق ثنائيات شكلية أو أكثر، تحمل أثير ملوناتها المتناسلة والمتناسقة مع دائرة الألوان الرئيسة والمتبعة، في سبك جميع المواقف الدرامية عمومًا. تستذكر الأماكن المهجورة وظلم ذوي القربى، وكأنها في حالة حلم ما، تقودك إلى مواقف وخلفيات شكلية معبرة عن قصة هنا، وحكاية هناك. تُقلب المواجع وتفتح طاقة لحنو وتفاعل إنساني ما، في لحظات التجلي. تُفسح المجال لبكائيات متوالدة في حركة الأجساد والنسوة الغارقات في الحزن الدامي، اللواتي كللن حياتهن بالألم. وجموع الضحايا المتراصين في طوابير المعاناة، وانتظار ما لا تُحمد عقباه، ينتظرون قدرهم الموعود بموت عابر بزنزانة، أو بيد سجان أو جلاد أو مُخبر.

الأحمر الدموي المتدرج حدة وكثافة وشفافية هو السائد في كثير من لوحاته، مستكملة دورة مجرته اللونية، بمشتقات الألوان الأساسية (الأحمر، الأصفر، الأزرق) والمعانقة لتدرجات الألوان المحايدة والمساعدة من (أبيض وأسود). يُدرجها الفنان فوق سطوح خاماته، بحسه العالي، وتجليات وجدانه وبوحه الشخصي المنفعلة بالحدث والرغبة في فعل شيء ذي قيمة في لحظة الابتكار، والبحث عن حلول تشكيلية متوافقة مع مزاجه الخاص، والمتصلة بحركية يده الخبيرة والرشيقة والممسكة بفراشي وسكاكين الرسم والتلوين متعددة المقاييس، لتدون حكاياته السردية، على طريقته، بلغة تشكيلية لصيقة بتجاربه.

فاللوحة لديه هي قطعة تصويرية “بانورامية” مُتكاملة الرؤى، من حيث البنية التشكيلية التقنية، أو المساق الوصفي التعبيري والدلالة الرمزية، المفتوحة على حكاياته الدرامية والملحمية، ومقدرته الفنية على ترتب مواقع الشخوص والمناظر والخلفيات المتممة، وتشكيل المشهد المسرحي لبيانه الفني، ورسالته التعبيرية المنشودة التي تُحدد دوره الوظيفي وموقعه، كفنان وإنسان ومواطن، في أزمنة الطغاة وقمع الحريات.


عبد الله أبو راشد


المصدر
جيرون